طباعة هذه الصفحة

موقفنا من الحياة النيابية (1)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

سؤال طالما طرح وكنت أتهرب من الإجابة عليه, ولكن في خلال هذا الأسبوع طرح متكررا فلابد من الإجابة عن هذا السؤال وإن كنت لا أرغب في الإجابة عنه خوفا من أن يساء فهم الجواب.

السؤال يقول إن ما يشاع بين الناس عنك أنك لا تؤيد الحياة النيابية لأنك رفضت التوقيع على العريضة التي  قدمت للمطالبة بإعادة المجلس الوطني وتفعيل المواد المتعلقة بذلك في الدستور؛ فهل صحيح أنك رفضت التوقيع على العريضة؟ وما هو موقفك أو توجهك من الحياة النيابية؟

الحقيقة هناك عريضتان وليست عريضة واحدة، عريضة كتبت في سنة 1992 وعريضة كتبت في سنة 1994. العريضة  الأولى نعم عرضت علي, وقد جاءني بها فضيلة الشيخ عبد الأمير الجمري وكان في صحبته على ما أتذكر الأستاذ عبد الوهاب حسين وأناس آخرون, وقال إن هذه العريضة كتبت ولم أكن أحب أن أتقدم عليك بالتوقيع فيها فجئتك بها، ولم يكن قد وقع على العريضة إلا توقيع واحد هو توقيع الشيخ عبد اللطيف المحمود، وقلت له: من وجهة نظري أن الأحسن أن هذه العريضة يوقعها أعضاء المجلس الوطني المنحل وأن بقية الجهات الشعبية تدعمها؛ لأن هذا يجعل لها وزنا في المحافل الدولية من جهة، ولأنهم أصحاب الشأن من جهة ثانية, إضافة إلى أن الدولة تزمع أن تنشئ مجلسا استشاريا فربما لو سبقتم إليهم وأعطيتموهم الفكرة لا يدخلون في هذا المجلس إذا ما دعوا إليه، طبعا فضيلة الشيخ رفض الفكرة، قلت له إذن هل شاورت بقية العلماء في الفكرة؟ قال لا، قلت له إن أمرا خطيرا مثل هذا الأمر وربما تترتب عليه أمور خطيرة وربما تنشأ منه أمور خطيرة ينبغي أن لا ينفرد به مثلي أو مثلك, وإنما يعرض على العلماء ليناقشوه ويدرسوه، ويدرسوا الآثار التي ربما تنشأ عنه, وما هي الصيغة الصحيحة للمطالبة بذلك, فإذا اتفقوا على صيغة معينة واتفقوا على أن الوقت والظرف ملائم لتقديم هذا الأمر فلا مانع أن يطالب به، قال: إنني قد اتفقت مع اليساريين وبعض أبناء السنة وليس عندي مجال للانتظار للتشاور، قلت له إنك تعرف أن علماء الشيعة لا يرضون بأن يساسوا من خارج الطائفة, وإنك محسوب على علماء الشيعة ولابد من أن تعرض الأمر عليهم, وإذا كنت مستعجلا فأعطني مهلة يوم واحد وأنا مستعد أن أجمعهم لتعرض عليهم هذا الأمر, ولكن إذا عرضت عليهم عريضة جاهزة مثل هذه العريضة فلا إشكال أنهم لن يوافقوا وإنما اطرح عليهم الموضوع ودعهم يتدارسونه ويبحثونه، ويكون الأمر صادرا منهم وليس مفروضا عليهم, وعندئذ يمكن أن يتم ما تريد. فغضب الشيخ من هذا الكلام وقام مسرعا للخروج. هذا بالنسبة للعريضة الأولى.

بالنسبة للعريضة الثانية لم أسمع عنها مطلقا إلا بعد أن وضعت في المجالس والمحافل والمساجد للتوقيع عليها, وبعد أربعة أسابيع من طرحها على الناس للتوقيع جاءني فضيلة الشيخ  علي سلمان البلادي وكنت في ذلك الوقت ألقي بحثا فقهيا, وانتظر حتى انتهى البحث وطلب أن يكلمني فذهبت معه إلى غرفة أخرى وقد صحبنا الشيخ منصور حمادة, وقال: كان من المفروض أن يؤخذ رأيك قبل كتابة العريضة ولكنني مرضت والأخوة تعجلوا وقد جئت الآن لأعرف رأيك في الموضوع.  فقلت له إن التشاور أو أخذ الرأي قد انتهى أوانه وأمده بعد طرح الأمر للناس، فسألني إن كان عندي ملاحظات على نفس صيغة الرسالة فقلت له فيها ملاحظات كثيرة ومن أبرزها التي أمام عيني حاليا فيها هاتان الملاحظتان وبينتهما له, ولم يطلب مني هو ولا غيره التوقيع فيها, ولم أتكلم أيضا ضد العريضة, أو أنهى أحدا عن التوقيع عليها أو عدم التوقيع عليها, بل حتى المحيطين بي والذين بإمكاني أن أقول لهم ألاّ يوقعوا فيها لم أتكلم معهم في الموضوع, ولم أجبهم بشيء لما سألوني في الموضوع؛ فمنهم من وقع ومنهم من لم يوقع, وممن وقع مثلا الشيخ منصور حمادة والشيخ حسن زين الدين وغيرهما من المشائخ ومن الشباب الذين يثقون بي لأنني رفضت أن أجيب، وقلت كل شخص يعرف تكليفه الشخصي، هذا بالنسبة للعريضة.

وأما بالنسبة إلى موقفي من الحياة النيابية أو توجهي من الحياة النيابية وأنني لماذا لم أطالب بإعادة البرلمان فأولا: ينبغي أن يفهم أنني ما وقفت في يوم من الأيام ضد الحياة النيابية, ولن أقف في يوم من الأيام ضد الحياة النيابية، وقد بينت في وقت سابق أنه في التجربة الماضية التي كانت في البحرين كان كثير من المشائخ العلماء متحرجين من الدخول في التجربة نظرا للإشكالات الشرعية التي تحيط بها, وأنها تقتضي تسليط من ليس بأهل, ومن ليس بعدل أن يشرع القوانين والنظم للأمة, فقمت بإقناعهم  بالدخول ولو للحد من المفاسد التي قد تنجم منها, وفعلا دخل منهم جماعة لا يزيدون على ستة إذ لم يتمكنوا في ذلك الوقت من أن يفوزوا بأكثر من ستة, وبذلوا كل جهدهم مشكورين في تعديل مواد كثيرة في الدستور في المجلس التأسيسي, ولكنهم أيضا عجزوا عن تعديل مواد أخرى خطيرة لا تزال باقية في الدستور؛ منها على سبيل المثال لا الحصر المادة الثانية من دستور دولة البحرين والتي تقول إن الشريعة الإسلامية من أهم مصادر التشريع ولا يحصر التشريع كله في الشريعة الإسلامية, ومواد أخرى كثيرة متفرقة هنا وهناك بقيت أبوابا مفتوحة في الدستور يتمكن كل من يريد أن يبعد بعض جوانب من الحياة عن الشريعة الإسلامية و أن ينفذ من خلالها، وعندما جاء المجلس الوطني أيضا دخل هؤلاء الجماعة، وفي المجلس الوطني أيضا, قاموا مشكورين بتلافي ما يتمكنون من تلافيه.

فإذن توجهي ليس ضد الحياة النيابية لا سابقا ولا لاحقا, ولكنني لست مستعدا أن أطالب بالحياة النيابية على وفق النسخة الأوروبية الخالصة والتي منها الصيغة الدستورية في البحرين للحياة النيابية, والذي يمنعني من ذلك سببان: أحدهما ديني والثاني سياسي، السبب الديني بطبيعة الحال أن يأتي شخص لا علاقة لي به ولم أكن أنا الذي  مكنت له ولم أكن أنا الذي أعنته فيصدر نظاما أو قانونا يتنافى مع الشريعة الإسلامية في قليل أو في كثير, ولن أكون مسئولا أمام الله عن مثل هذا الشخص، ولا عن مثل هذا القانون, ولكن عندما أكون أنا الذي أعنت، وأنا الذي ساعدت وأنا الذي دعوت ومكنت مثل هذا الشخص أو هذه المجموعة من الأشخاص أن تصدر قانونا أو تصدر نظاما يبعد الناس عن الشريعة الإسلامية في ناحية من نواحي حياتهم فلا إشكال في أني سأكون غدا مسؤولا أمام الله سبحانه وتعالى عن مثل هذا القانون, وعن مثل هذا الشخص, أو مثل هؤلاء الأشخاص، والمطالبة الحالية الموجودة إنما تطالب بتفعيل  الدستور؛ أي بإعادة ما كان موجودا أو إيجاد الصيغة السالفة الذكر. فإذن هي هذه نفسها النسخة الأوروبية من الديمقراطية الغربية, ولا إشكال أنه في أثناء الدور الأول الذي لم يتم في المجلس الوطني صدرت عدة قوانين تخالف ضروريات في الشريعة الإسلامية. أضرب مثلا على ذلك وهو مثال وليس حصرا قانون التقاعد، قانون التقاعد أعطى الزوجة خمسة أثمان الإرث، خمسة أثمان ما يتركه المتوفى، وأعطى الأبوين والأولاد ثلاثة أثمان، هذا في حد ذاته مخالف مخالفة صريحة للأمر المنصوص في القرآن في ما فرضه الله للأبوين والزوجة والأولاد، إضافة إلى ذلك في الحقيقة فإن هذا يؤدي إلى حرمان ورثة المتوفى من التركة, فالقانون يعطي بنات المتوفى إلى أن يتزوجن, ويعطي أولاد المتوفى إلى أن يتمكنوا من تحصيل العمل أو يبلغوا سنا معينة يفترض فيهم أنهم يتمكنوا من تحصيل العمل, ويعطي الزوجة إلى أن تتزوج, وبعد ذلك تكون إدارة التأمينات الاجتماعية هي الوريث الحقيقي لما تركه الميت، ولو فرضنا أيضا أن الميت ليست له زوجة ولا أولاد ولا أبوين فإنه لا يعطى أهله إلا ما يشيع جنازته ويقيم الفاتحة, وكل أتعاب ذلك العامل يرثها صندوق التأمينات الاجتماعية. هذا قانون واحد والمشائخ والمؤمنون الذين كانوا في المجلس حاولوا تعديل كثير من مواده ولكنهم لما لم يتمكنوا من جعله مطابقا للشريعة الإسلامية رفضوا التصويت عليه, ولكن لم يتمكنوا من تعديله أو توقيفه، وممن رفض التصويت عليه أيضا فضيلة الشيخ عبد الأمير الجمري الذي كان في ذلك الوقت عضوا في المجلس الوطني، وهناك قوانين كثيرة, بل إن بعض أعضاء المجلس تقدم بمشروع قانون يطالب فيه بتنظيم البغاء واعتباره مهنة شريفة ليس عليها غبار بحجة أن البلد مقدمة على أن تكون بلد خدمات, ولو قيض للمجلس أن يستمر في عمره لكان ربما يفوز مثل هذا القانون ويصبح للبغاء اعتراف قانوني رسمي تمارسه البغايا بكل حرية. فإذن النسخة الغربية التي ورثتها الدساتير العربية تمنع أي إنسان يريد أو ينظر إلى الحياة الأخرى أن يعرض نفسه للمطالبة بها، ولكن لو وجدت سواء بمطالبة غيري أو بطرح من الدولة فسوف أقول للمؤمنين ادخلوا, واعملوا ما استطعتم في منع المفاسد, لكنني لن أطالب بها، نعم لو كان يمكن إيجاد الصيغة الإسلامية الصحيحة للحياة النيابية لكنت أتبنى ذلك وأعمل على تحقيقه بالطرق الصحيحة.

فمثلا دستور الجمهورية الإسلامية الذي صدر في سنة 1980 قد جاء مفاجئا للعالم بأنه لم يتأثر بالطريقة الغربية الأوروبية في الحياة النيابية, لقد كان رائدا بين دساتير البلدان الإسلامية في الصيغة التي طرحها  وأصبحت التجربة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية تجربة إسلامية حقيقية ورائدة؛ وذلك لأن هذا الدستور لم يجعل من شئون مجلس الشورى حق إصدار القوانين، وأكثر ما يستطيعه مجلس الشورى المنتخب في إيران هو أن يتقدم بطلب برغبة بقانون, ولكنه لا يستطيع أن يصدر القانون، الدستور في الجمهورية الإسلامية الإيرانية نص على مجلس آخر أناط به إصدار القوانين, وهذا المجلس هو مجلس صيانة الدستور, ومجلس صيانة الدستور بموجب الدستور الإسلامي يشترط أن يكون أعضاؤه فقهاء عدول, وحتى لا يتمكن أحد أن يعمل لنفسه دعاية ويفوز لهذا المجلس عن طريق الدعايات الانتخابية الرخيصة فإن الدستور احتاط لهذا الأمر وجعل أعضاء مجلس الخبراء لا يصلون إليه عن طريق الترشيح والانتخاب، وإنما عن طريق التعيين من قبل مرشد الثورة، وهذه فعلا نسخة جديدة من الحياة النيابية تمنع من لا يلتزم بالشريعة الإسلامية لو صل أحد منهم إلى مجلس الشورى أن يتمكن من إصدار أنظمة وقوانين تنافي الشريعة الإسلامية. وهذا طبعا هو السبب الديني الذي منعني أن أطالب بذلك، لا أنني أرفضه, يعني لو أن غيري طالب واستجابت الدولة فسوف أقول للمؤمنين ادخلوا فيه، ادخلوا فيه لتحدوا ما تستطيعون أن تحدوا من الفساد، لتوقفوا ما تستطيعون أن توقفوه من الأشياء المخالفة للشريعة, ولن أكون إذن مسئولاً أمام الله سبحانه وتعالى لأنني لم أمكن لأحد, ولم أعن أحداً على أن يشرع للمسلمين ما يخالف أحكام الله .

أما من الناحية السياسية فسأتكلم على الموضوع في الأسبوع القادم إن شاء الله وأرجو أن لا يساء فهم الكلام الذي جرى هذه الليلة أو الذي سيجري الأسبوع القادم وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

 

 

*  كلمة ألقاها الشيخ سليمان المدني في ليلة الثلاثاء 16/10/1995م بجامع جدحفص

آخر تعديل في الإثنين, 29 مارس 2021