حول آداب ومجالسة العلماء
عن آداب مجالسة العلماء, فلا بأس بالكلام عن آداب المتعلم والمعلم, ونبدأ في ذلك بنبذة في ذكر فضل العلم والعلماء.
ولا شك أن الإنسان بفطرته يدرك شرف العلم وحسنه, كما يدرك قبح الجهل وانخفاض درجته, ويكفي في فضل العلم في هذه الشريعة حث القرآن الكريم والنبي الكريم عليه, حتى أنه صلوات الله وسلامه عليه قال "اطلبوا العلم ولو في الصين", أي ولو كان في الشقة بينكم وبين موضع تحصيل العلم كالشقة بين بلاد العرب وبلاد الصين, وقال علي عليه الصلاة والسلام: "اطلب العلم من المهد إلى اللحد", أي لا تنقطع عن قارب العلم, لأن العلم في الحقيقة لا نهاية له, حتى يقول الإنسان إنني قد وصلت إلى منتهى العلم فيكف عن الطلب, بل إن المفروض أن الإنسان كلما تكشفت له أسرار العلوم, وكل ما تبينت له الحقائق, كلما اشتدّ شغفاً وولها في تحصيلها، وهتك أستارها، وكشف حجباتها؛ وذلك لأن اللذة الحقيقية في هذه الدنيا ليست إلا لذة الفكر، ولذة المعرفة, وأما سائر ما يناله الناس من المأكل والمشرب, واللباس والنساء والجاه وغير ذلك من أمور الدنيا ففي الحقيقة لا يقال أنها لذّة, بدليل أنها تنقضي وتتناقص.
وقد بينا في محاضرات سابقة أنها هي علاجات للآلام, فإذا تناول المريض الدواء وانخفضت درجة الألم يشعر براحة فيظن أنه قد تحصل اللذةّ, ولكن إذا عاد إلى الطبيعة السوية يشعر بالتنازل السريع من الوصب الذي يصيبه إلى الراحة فيفقد اللذة, فمثلا الإنسان الجائع, أول ما يتناول اللقمة الأولى يشعر بلذة كبيرة فيها, ثم تتنازل لذته في ذلك الطعام لقمة بعد لقمة, ولو كانت لذة حقيقية لازدادت بسبب تذوقها، ولكن في الحقيقة فإن تناول الطعام لما كان دواء لألم الجروح, فهو يشعر بالراحة في إزالة ذلك الألم, وكل ما زال الألم وخفت درجته, كلما قلت رغبته إلى ذلك الدواء لاستغنائه عنه, فإذا شبع انتهت لذته من ذلك الطعام, وكذلك سائر ما في هذه الدنيا في الحقيقة كله ليس إلا أدوية للآلام التي تصيب الإنسان, أما آلام جسمية كالجوع والعطش والبرد والحر وأمثال ذلك, وإما آلام نفسية كالشعور بالحاجة فيحصل على لذة كبيرة عندما يدخل عليه المال, أو لأن الإنسان باعتبار أن الله سبحانه وتعالى أوجد فيه حباً من ناحية السمو وناحية الرفعة, فهو يطمع دائما في العلو ويطمع دائماً في الجاه, فهو بسبب ما أودع الله فيه, يحس بألم من هذه الناحية, وإذا صار له نوع وجاهة أو نوع عزة أو نوع كذا, يكون علاجاً لهذا الألم, ولذلك يظنه لذّة, والحقيقة أن هذه الأمور, ليست لذّة, والدليل على أنها ليست لذّة وأن الإنسان يشبع منها, ويزول تذوقها من عنده إذا أكثر منها, بل ربما يحس بألم جديد, من جراء مضاعفتها, فمن يكون نهماً في الأكل فيكثر من الأكل, بعد أن يفرغ يحس بألم الثقل من البطنة, فيعمد إلى دواء جديد, أي شيءٍ يزيل عنه ذلك الألم, تراه يجهد نفسه فيما يحصل من المهضمات, أي نوع من المهضم, الذي يسرّع في هضم الطعام يستعمله، وما ذلك إلا لأنه لما انهمك في الأكل, وزاد ما أكله عن حاجته وأحس بثقله, أحس بالألم من جديد، ولكن من نوع آخر، كان في السابق يحس بألم الجوع، وأصبح الآن يحس بالتخمة التي هي ألم البطان.
فإذاً في الحقيقة لا توجد مما لدى الإنسان مما اعتاد على استعماله شيء يستحق أن يسمى لذة، اللهم إلا العلم والمعرفة، وهذه الحقيقة هي اللذة في الدنيا، اللذة الحقيقية في الدنيا، ولذلك تجد أن من تذوق طعم العلم، يكون نهما لا يشبع، لأنه كلما تفتقت له أسرار ذلك العلم كلما ازداد شغفاً وولعاً وحباً, وصبر وثابر على الكد والتحصيل, لماذا ؟, لأنه يشعر بلذة, وتبقى هذه اللذّة عنده لا تزول, يعني من يدرك حقيقةً من الحقائق, ينفرد بإدراكه لتلك الحقيقة, وهذه اللذّة لا تزول عنه, لا تزول عنه إذا شبع منها, وقد لا يشبع من تأملها, لا يشبع من التمعن فيها, بل يرغب أن يجد أن لها طرفاً وخيطاً لم يكتشف بعد, يتصل بحقيقة أخرى, فتجده مجداً مثابراً ساهراً صابراً ليتوصل إليه أو ليصيب غير ذلك الخيط المتصل وهكذا يقضي عمره، فإذن الذي يكون لذة والذي يمكن الصبر عليه من حين ما يكون الإنسان في مهده إلى أن يصل إلى لحده هوالعلم، وقوله صلوات الله وسلامه عليه: "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"، إنما هو إشارة إلى ذلك - إلى أن العلم ليس له حد – وبحر ليس له ساحل, فكلما غاص الإنسان لا يصل إلى قعر، وكلما سبح لا يصل إلى ساحل، وهذا البحر اللجي في حقيقته هو الذي يمثل اللذة الوحيدة في هذه الحياة الفانية, وليس وراء الفكر ووراء المعرفة ووراء العلم من لذة، هذا أمر محسوس يدركه الإنسان بفطرته، بالإضافة إلى الحض الكثير الوارد عليه، الوارد عليه من النبي صلى الله عليه وآله ومن الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم.
ولا شك أن هذه العلوم -العلوم التي يتمكن الإنسان من السير فيها– أيضا تتفاوت في درجاتها، فكل العلوم شريفة ولا إشكال، كل العلوم شريفة، وكل العلوم مفيدة، وكل العلوم حقيقة بأن تدرس، حريّة بأن تدرس وتفصل، ولكن هذه العلوم أيضا تتفاوت في الشرف وتتفاوت في الدرجة، وتتفاوت في الفضل والحسن، فمثلا العلوم التي تتصل بالإنسان لا شك أن مقامها أخطر من العلوم التي تتصل بالمادة، وإن كانت المنجزات التي نشاهدها ومدنيتنا الحاضرة إنما هي منجزات علوم المادة؛ لكن تأثير العلوم المتصلة بالإنسان على الإنسان أخطر من نتائج هذه العلوم المادية، مثلا ببركات هذه العلوم المادية أصبحت حياتنا سهلة وميسرة وبسيطة بما أوجدته هذه العلوم من آلات؛ بسبب التوسع في علم الحيل الصناعية المعروف بعلم الميكانيكا, يعني هذه العلوم كان القدماء –وبهذا السبب أنا ذكرت هذا الاسم- لأن القدماء يجمعون هذه العلوم تحت هذا العنوان [العلم بالحِيَل الصناعية]، أي كيف يولد الحركة بهذه الطريقة، أو كيف مثلا يجعل الحركة تكون بتلك الطريقة، والسكون يصل إلى هذا الحد، فيحتالون على رفع الأثقال مثلا بآلة، أو قطع الخشب بآلة أو غير ذلك، طبعا هذه كلها من باب التحايل على استخدام بعض القوانين الطبيعية في باب الحيل الصناعية، ولا شك أن مدنيتنا تقوم على منجزات هذه العلوم، ولكنها لا تؤثر في حياتنا ذلك التأثير الشديد إلا عن طريق الحضارة، فلو تركت المدنية وشأنها عندئذ لا يكون لها أي تأثير على الحياة ما لم تقترن بالحضارة. ولكن ربما أكون أغربت في المصطلح، أو ربما يكون كثير من الإخوان لا يفرق بين مدلول لفظ الحضارة ومدلول لفظ المدنية.
المدنية طبعا هي ما يوجد في عصر ما من آلات وأدوات تيسر له سبل العيش والحياة، وتسهل عليه القيام بالأعمال، فبدءا بالسكين الصغيرة، أو الإبرة التي يخاط بها الثوب، أو المسلة التي يصنع بها الحصير، وانتهاء بالطائرة والصاروخ وغير ذلك، هذه الأمور كلها تسمى مدنية، وأما الحضارة فهي أمر معقد، للمدنية فيه تأثير، ولكن للأديان والعقائد والأفكار والعادات والأنماط السلوكية والتربية والمناخ من كون المناخ مثلا رطبا أو يابسا، حارا أو باردا، مشمسا أو مغيما، أو غير ذلك كله دخل في تكوين الحضارة، وأضرب لكم مثلاً بشيءٍ طبيعي لا يختلف من عصرٍ لعصر, حقيقةً أن الإنسان يعطش, لكن العطش يحتاج إلى من يروي هذا العطش, طبعاً المدنية تقدم وسائل متعددة, المدنية مثلاً توجد الأدوات التي تخرج بها الماء، والماء سائل يروي العطش، المدنية مثلا، توجد الوسائل التي تنمي الأبقار فتوجد الحليب والحليب واللبن ومشتقاته كلها سوائل يمكن أن يروى بها العطش، والمدنية أيضا توجد الأشربة الأخرى كالمركبات المحللة مثل الكولا وغيره وكلها يمكن أن تروي العطش، المدنية أيضاً يمكن أن توجد أنواعاً من السوائل والمشروبات، تضر بالعقل وبالقلب وبالرئة وبالكبد وهذه أيضاً تروي العطش كالخمرة والفقاع المعروف الآن بالبيرة وأمثالها من سائر الأشربة يمكن أيضاً أن تروي العطش، طريقة تناول هذه الأمور لري العطش هو ما تفرضه الحضارة، فمثلاً ربما في ديار من أوروبا يكون شربهم للفقاع أكثر من شربهم للماء، يعني كلما أحس بالعطش كلما سارع إلى شرب الفقاع أي البيرة، لماذا؟ لأن الحضارة التي يعيشونها تحبذ ري العطش بهذه الوسيلة، أكثر من تحبيذها لري العطش بالماء أو الحليب ومشتقاته، وربما مثلاً في بلادٍ أخرى تكون الحضارة تروي العطش بوسائل أخرى، فإذن طريقة التناول بهذه الطريقة هي التي تسمى بالحضارة، وحتى الآلات وحتى الأدوات وطريقة استعمالها تعود إلى الحضارة، ووجودها يعود إلى المدنية، فمثلاً المِلعقة، المِلعقة باعتبارها آنيةً مصنوعة فهي من نتائج المدنية، طريقة استعمالها ومواضع استعمالها يعود إلى الحضارة، هذا الفرق بين الحضارة وبين المدنية.
في الحقيقة أن العلم الإنساني أو العلوم المتعلقة بالإنسان هي العماد الفاعل المؤثر في الحضارة، فمثلاً العلوم المتعلقة بما يسمى بعلم النفس مثلاً، أو علم القانون أو علم الاجتماع أو علم السياسة أو علم الدين أو غيره، أو دراسة الفلسفة بمختلف مذاهبها، أي أن تأثير هذه العلوم على الحضارة أكثر من تأثير المدنية على الحضارة، فمثلاً لو فرضنا في مجتمع يسوده الإسلام مائة بالمائة، وليست فيه عادات غريبة على الإسلام يمكن أن تتناول جميع ما أنتجته المدنية ولكن بطريقة مختلفة تماماً عن مجتمع آخر لا يدين بالإسلام أو لا يصل إلى درجة عليا من التمسك بالإسلام، وهنا مثلاً يكون للدين بطبيعة الحال تأثير كبير على استعمال تلك الآلة، فإذن تأثير الدين في الحضارة يكون أكثر من تأثير تلك الآلة، وهكذا سائر العلوم الإنسانية، كلها لها تأثير في صياغة العقلية البشرية وصياغة الأنماط السلوكية للبشر أكثر من التأثير المادي لمعطيات العلوم المادية، فلا شك أن الإنسان أشرف بكثير من العلوم المتعلقة بالمادة.
وإذا جئنا إلى العلوم المتعلقة بالإنسان أيضا تجدها تتفاوت في الفضل والشرف والرفعة علماً عن علم، فلا يوجد مثلاً من يقول إن علم الطب ليس بأشرف مثلاً من علم الاجتماع، لا أحد يقدر أن يقول هذا الكلام، لماذا؟، لأن ما يقدمه الطب من خدمة للإنسان لحفظ أصل وجوده فوق هذه الأرض أكثر مما يقدمه علماء الاجتماع، وإن كان في الحقيقة أن الطب إنما أيضاً هو وجه من وجوه نشاطات المجتمع الإسلامي وليس معطيات فردية، كذلك ما تقدمه الأديان أو ما يقدمه الدين إلى الإنسان باعتباره يقدم له حياته الدنيا ويدله على ما ينبغي له أن يفعله ليسعد في حياته الأخرى، لا إشكال أنه لا يقارن بسائر العلوم الأخرى المتصلة بالإنسان، أو التي تبحث ويكون مادة بحثها هو الإنسان ذاته، فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله: "العلم علمان، علم الأديان وعلم الأبدان" أيضاً هذان العلمان ليسا في درجة واحدة، وإن كان كل منهما يتعلق بالإنسان أتم التعلق، ويقدم له الأمور الضرورية للحياة الدنيا، لكن لما كان أثر الطب منحصراً في خصوص الدنيا، وعلم الدين يسري أيضاً وله نتائج لا تنحصر في هذه الحياة الدنيا، وإنما أيضاً تصل إلى الآخرة فلا شك أن علم الدين أيضا أشرف من علم الطب باعتبار أنّ نتائج وموضع الاستفادة من نتائجه، أرحب وأوسع وأعم واشمل، غاية ما يتمكن علم الطب مثلاً، أن يقدمه هو تدبير الأجسام أو علم تدبير الصحة، غاية ما يتمكن هذان العلمان عليه هو أن يجعلا الإنسان يعيش في الدنيا خالياً من الآلام بقدر الإمكان، ولكن لا يستطيع أن يجعل شيئاً تجاه ذلك بالنسبة للحياة الآخرة، وأما علم الدين فكما أنه ينظم للإنسان طرق حياته في الدنيا، ويجعله في الدنيا بقدر المستطاع سعيدا وآمناً، فإنه أيضاً يفتح له باب التعامل الذي يؤدي به إلى حياة مستقرة وسعيدة وآمنة في الآخرة، فإذن تكون نتيجته أعمّ، ومجال الاستفادة منه أرحب، فإذا كان كذلك يكون أشرف.
وعلم الدين أيضاً لما كان علوماً متعددة أيضا فبعضها لا شك أشرف من بعض، وذلك بسبب اختلاف الموضوعات التي تبحثها هذه العلوم، ولا شك أن المعرفة بالله سبحانه وتعالى هي أشرف من كافة العلوم، أي أن العلم الذي يبحث عن معرفة الله وعن معرفة ملائكته وكتبه ورسله وعن معرفةٍ تفصيلية باليوم الآخر والحياة الأخروية، لما كان موضوعه أشرف الموضوعات ونتيجته أخطر النتائج؛ التي لها التأثير التام في حياة الإنسان, في الحياة الدنيا وحياته الأخرى فلاشك أنه يكون أشرف العلوم وأخطر العلوم, فقضية العلم وإن كانت شريفة كلها ولكن علم الدين هو أشرف العلوم وأفضل العلوم, ويأتي في فضله أن الله سبحانه وتعالى جعل للعلماء, أو مدح العلماء في كتابه مدحاً لم يمدح به أحداً من خلقه.
وقال سبحانه وتعالى: ]إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[[1]. ولا شك أن ما يُنجي يوم القيامة, إنما هو خشية الله سبحانه وتعالى, وأيضاً جعل للعلماء من مقام ومن إجلال ومن إكرام ما لم يجعله لأحد, حتى أنه أمر الناس بأن يبجلوهم ويجعلوهم صدر المجالس، ولا يزاحموهم، بل لو دخل أحد العلماء إلى مجلس وكان ذلك المجلس مكتظا ألزم سبحانه وتعالى المؤمنين بأن ينشزوا من صدر المجلس ويفرغوه لذلك العالم، قال سبحانه وتعالى: ]وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[[2]، ولا شك أن هذا التبجيل وهذا الإجلال إنما هو لأجل العلم الذي يحملوه؛ لأجل العلم بمعرفة الله سبحانه وتعالى، والعلم بأحكامه جل وعلا، وإلا لو دخل أحد علماء الأنساب، عالم بالنسب علامة، أي أن يكون عارفا بالأنساب وتسلسل العشائر وبطونها وهذا يسميه العرب علامة؛ لا يأمر له بهذا التبجيل، وإنما يأمر له بهذا التبجيل إذا كان يحمل العلم الرباني، العلم الإلهي، العلم بالله، ومعرفة الله، والعلم بأحكام الله، وحتى أنه في تصريح من النبي صلى الله عليه وآله صار العلماء ورثة الأنبياء العلماء, هم ورثة الأنبياء وذلك كما في الحديث: "إن الأنبياء لا يورثون ذهبا ولا فضة وإنما يورثون أحاديث من أخذ بها فهو وارثهم"، ومن ذلك المشهور من قول نبينا صلوات الله وسلامه عليه "العلماء ورثة الأنبياء" ولا شك أنها وراثة شريفة لا تعطى لأحد مجانا.
ولقائل أن يقول وأين أنت مما كان يفعله صلى الله عليه وآله؟ أليس هو أعلم العلماء على الإطلاق ولقد كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، أين أنت من هذا الحديث؟ نقول بلى هذه أخلاق سيدنا ونبينا صلى الله عليه وآله كان يجلس حيث ينتهي به المجلس تواضعا منه، لا أن الله لم يجعل له الحق في وجوب الخصوص والإجلال والإكرام، بل تواضعا منه من جهة وتعليما لأولئك المتكبرين أولي الخيلاء والجبروت الذين يحوطون به من جهة أخرى؛ وذلك لأنه صلوات الله وسلامه عليه وآله كان يعيش بين قومٍ ربوا بالجاهلية، وعاشوا في الجاهلية، ودخلوا الإسلام في أواسط أعمارهم أو أواخر أعمارهم في الأعم الأغلب منهم؛ ولذلك فهم مخضرمون حديثو عهد بجاهلية، ولقد كان العرب في الجاهلية أولي خيلاء وأولي جبروت، وأولي ترفع؛ حتى أن السبحة من الجوهر الثمين تسقط من أحدهم في الطريق فلا ينحني لها ليأخذها، بل يتركها وينصرف للبيت تكبرا من أن يراه الناس قد انحنى، وبعد ذلك يرسل العبد فإن وجدها وإلا فإنه لا يكترث، فأراد صلى الله عليه وآله أن يعلمهم التواضع في كل باب، فكان يتنازل عن حقه لهذا الهدف الرفيع، فمن جهة أنه تواضع لله سبحانه وتعالى، ومن جهة يفعله تعليما لأولئك المتجبرين الذين دخلوا الإسلام بعد أن تغلغلت هذه العادات في نفوسهم، وأراد صلى الله عليه وآله أن يزيلها حتى لا يتزاحموا على صدر المجلس، فإذا كان صلى الله عليه وآله يجلس حيث انتهى به المجلس لا يكون للمجلس صدر معلوم يتزاحمون عليه ويتكثفون حوله، لأنهم إذا عرفوا أن هذه الجهة هي صدر المجلس الذي يجلس فيها النبي صلى الله عليه وآله فلا شك أن أصحاب الخيلاء والجبروت الذين يحبون السمعة والرفعة في أعين الناس سيتزاحمون ويتكثفون على تلك الجهة، وإذا هو جلس حيث انتهى به المجلس لا يعرفون أين سيكون جلسوا في أي مكان، ولقد رأى هؤلاء الضعيفو النفوس الذين تربوا على الخيلاء والجبروت أن الاقتراب من النبي والجلوس عنده مركز شرف لا يمكن أن يفوتهم في أعين الناس، فأخذ كل منهم يضيق من المجلس ويأتي ويجلس بالقرب منه صلى الله عليه وآله ويساره حتى يقول الناس الضعفاء الفقراء هذا رجل عظيم، هذا ممن يسارّه النبي صلى الله عليه وآله، فإذن هو من خاصته وبطانته وله المحبة عنده.
فالله سبحانه وتعالى أراد أن يفضح هؤلاء، وأمر بأن لا يسارّ النبي أحد إلا ويقدم بين يدي نجواه صدقة، ويدفع مالا, فهذا يشق عليهم؛ فهم يحبون الجاه ولكن لا يريدون جاها يكلفهم أموالا, فانقطعوا عن ذلك, ولكن جاء عليٌ عليه السلام لأمر مهم يريده من النبي صلى الله عليه وآله، وقرئت عليه الآية فتصدق وناجى النبي صلى الله عليه وآله, ولم يتصدق أحد غيره, على أي حال لأن الله سبحانه وتعالى أوقف طلاب الجاه من أن يستغلوا تواضع رسوله في نفوس الضعفاء, فإذن كان ما يفعله النبي صلى الله عليه وآله إنما هو لإزالة هذه الأمور, وإلا فالآية القرآنية صريحة في أن للعلماء صدر المجلس: ]وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[[3].
فإذاً فضل العلماء في هذه الشريعة عظيمٌ جداً, هذا بالنسبة إلى العلماء, ولكن ما هو فضل طالب العلم؟ ما هو الفضل الذي جعله الله سبحانه وتعالى لطالب العلم, نأتي عليه في الأسبوع الآتي إن شاء الله.
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
[1] فاطر: من الآية28
[2] المجادلة: من الآية11
[3] المجادلة: من الآية11
