المناجاة وقيام الليل
الجمعة 27 جمادى الثانية 1420هـ المصادف 08 تشرين الأول 1999م
الخطبة الأولى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله يُجزل الثواب للمتقين, ويَرفع درجات العاملين، وينير الطريق للمتوسّمين، ويدفع السوء عن الصابرين، ويكشف الضُّر عن المتوكلين، ويَخفِض مقامات المعاندين، الذي أوضح طُرُق الدراية بشمس هدايته، ومحق غسق الجهالة بنور دلالته، فنجَى من اتبع آياته وبينتَّه، وهلك من أصرّ على عناده ومخالفتِه، فسبحانه لا إله إلا هُوَ ما أعظم شأنُه، وما أوضح بيانه، وما أتمَّ برهانه، وما أبلغ حجته، وما أبلج طريقته.
نحمده سبحانه حمداً أوجبه على خلقه، وارتضاه لنفسه، حمداً نستمطر به هواطل نعمائه، ونستزيد به من رواشح آلائه، ونستنزل به سوانح عطائه، ونستعين به على الإذعان لقضائه، ونستدفع به نوازل بلائه، ونسأله سبحانه أن يوفقنا لنيل درجات مرضاته، وبلوغ بحبوحة جنّاته.
ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في أزليته وسرمديته، ولا نِدَّ له في جبروته وعزته، ولا شبيه له في أحديّته وصمديّته، فهو الواحد الأحد، الفرد الصّمَد, الذي لم يلد ولم يولد, ولم يكن له كفوا أحد، فله نعبُد ونحفَد، وله نركع ونسجد.
ونشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله مِقدام كتائب النبوة وقائدها، وخاتِم صحيفةَ الرسالة ورائدها، ومفرِّق زمر الغواية ومبدّدها، وموضّح طرُق الهداية ومعبّدها، ونشهد أن ابن عمه عليا عليه السلام هو وليُ الأمة من بعده وسيّدها، وهو المؤتمن على أسرار الرسالة وشاهدها.
صلى الله عليهما وآلهما أسس الإيمان، وكنوز الرحمن، وحُجج الملك الديان، ومفاتيحِ الجنان، صلاة تكون لنا يوم القيام مظلة أمان، ووسيلةً لرضا الرحمن، وترزقنا في دارهم الاستيطان، وتنزلنا من بحبوحة الخلد أرفع مكان.
عباد الله, أوصيكم ونفسي الجانية قبلكم بالالتزام بجادّة التقوى، فإنها للنجاة من غضب الجبّار السبب الأقوى، بل هي الجُنّة الواقية من الوقوع في لظى، واعلموا يا عباد الله, أنّ هذه الخِصلة الجليلة لا تُنال إلا بجهاد النفس بشتى المجاهدات، وإلزامها بالتخلي عن ساقط العادات، والتحلّي بمحاسن الصفات والفضائل، وتعويدها على السير في طُرُُق الكمالات، واكتساب الحسنات، وهذا لا يتمّ إلا بنبذ العقائد الفاسدة، والابتعاد عن الأفكار الكاسدة، وأن يُدمِن الإنسان ذكر الملك الغفار، وأن يُكثر من التذلل له والاستغفار، وأن يواظب على الإتيان بالمستحبّات، وبالأخص مندوب الصلوات، من النّوافل الراتبة، التي وردت فيها الترغيبات, وحثّ عليها النبي صلى الله عليه وآله وكذلك الأئمة الأعلام عليهم الصلوات والسلام.
ومِن أقوى فوز الإنسان من وسائل فوز الإنسان بالجنّات, والتقرب من الله سبحانه وتعالى هي مناجاة الله في الظّلام، والقيام بنوافل الليل والنّاس نِيام، حيث تتمُّ لهم الخلوة بالمحبوب، وتسنَح لهم الفرصة بالتملّق والتزلّف إليه سبحانه وتعالى لنيل المطلوب.
فحافظوا رحمكم الله على نوافل الليل, فإنَّ لها من الله الفضلَ العظيم، وقد وصفها سبحانه في كتابه بقوله تعالى: ]إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً[[1]، ولا إشكال أنّ نفس الإنسان ربّما تنشط للعمل في النهار أو في المساجد مع سائر الناس, وربما يداخله في ذلك الوقت نوعٌ من الرياء والمُباهاة، بخلاف صلاة الليل التي يأتي بها المكلف في قعر داره منفردا عن المشاهدين، مستترا في مصلاه عن سائر الناظرين.
وقد وردت في الحث عليها كثير من الأخبار عن السادة الأخيار؛ فعن مولانا الصادق صلوات الله عليه أن في صلاة الليل ثلاث خصال تبيض الوجه وتطيب الريح وتكثر الرزق[2]، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إن الله ضمن بصلاة الليل قوت النّهار"[3]، وأن الله سبحانه ليباهي ملائكته بمَن يقوم الليل من عباده المؤمنين؛ ففي الخبر عن أبي عبد الله جعفر بن محمدٍ الصادق عليه الصلاة والسلام من الملك العلام: "أن العبد ليقوم لصلاة الليل فيميل النعاس برأسه يميناً وشمالاً ويقع ذقنه على صدره, فيأمر الله سبحانه أبواب السماء أن تُفتح ويقول للملائكة: انظروا إلى عبدي وما يصيبه من التقرب إلي بما لم أوجبه عليه، وهو إنما يرجوني لأحد ثلاث: ذنبٍ أغفره له، أو توبةٍ أجددها له، أو رزقٍ أزيده فيه, فاشهدوا يا ملائكتي إني قد جمعتهن له"[4].
فلا تفوتكم هذه المقامات، فتخسروا هاتيك الكرامات، وأكثروا في هذه العبادات من البكاء والتباكي، واذرفوا الدموع للنجاة من النّار، فإن القطرة من الدمع تطفأ بحراً من النيران، فكيف إذا اغرورقت العين بالدموع.
وأحيوا ليلكم بالدعاء والمناجاة, والتهجد والتِّلاوات، وتزلفوا إلى الله بإخلاص النيّات، وتملّقوه في فكاك رقابكم من النار، التي خُلقت لأعداء الجبار، واسألوه أن يعفوَ لكم عن الحوْبات، وأن يمحوَ عنكم السيئات، بل أسالوه أن يبدل سيئاتكم بالحسنات، وتوسّلوا إليه بالنّبي صلى الله عليه وآله في إقالتكم من العثرات.
جعلني الله وإياكم من المنتفعين بالعظات، المتلافين لما فات من الأوقات، بالإكثار من فعل الطاعات، والإبتعاد عن المحرمات والشبهات، إنه بعباده لطيف رحيم.
إن أنفع وعظ وابلغ، كلام خطاب الله الملك العلام، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
]وَالْعَصْرِ & إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ & إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[[5].
وأستغفر الله لي ولكم إنه غفور رحيم وتواب حليم.
الخطبة الثانية:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي دلَّ على غِناه بفقر المُمكنات، وعلى قدرته بعجز المخلوقات، وعلى قِدَمه بإيجاد الحادِثات، تردّى بالجبروت والكبرياء، وقهر مَن دونه بالموت والفناء، اتّصف بالرحمة والإحسان، والتجاوز والامتنان فمن لطفه ورحمته وضع الشرائع والأديان، وإنزال الكتُب وبعث الأنبياء لتكميل بني الإنسان.
نحمده سبحانه بكل ثناء يليق بعزِّ جلاله، ونثني عليه بكل مدحٍ يناسب علوَّ كماله، ونشكره تعالى على قديم كرمه وعميم نوَاله، التماسا لزيادة منه وإفضاله، وفرارا من أليم أخذه ونكاله، ونعوذ به من وسوسات الشيطان وأعماله، ونلوذ به من شرِّ كلِّ باغ قد نسي يوم مآله، ونستعين به جل اسمه على نوائب الدهر وأهواله، ونسأله التوفيق للالتزام والعمل بما بُلغنّاه من وصاياه وأقواله، والنّجاة يوم العرض من نسيانه وإهماله.
ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في الدنيا ولا في الآخرة، ونتوَّكل عليه في دفع كل متقصِّدٍ فهو ذو القوة القاهرة، ونعتمد على كتابه في كل واردة وصادرة، ونلتزم الدعوة إلى صراطه فهو سبيل الخير في الدنيا والآخرة، ونحذِّر عبادَه من التحاكم والدعوة إلى الطاغوت وإن أجلَبَت علينا الأحزاب الكافرة، وتألبت علينا الزمر الفاجرة.
ونشهد أن محمدا صلى الله عليه وآله عبده ورسوله، خير من أرشد إلى طرق المجد والكمال، وأبلغ من أسكت شقاشق الكفر والضلال، الذي بالتزام هديِه تتحقق الآمال، وتُنال شفاعتُه في المآل.
صلى الله عليه وآله حملة أثقاله، ونقلة أقواله، وسَدَنة أبوابه، وخواصِّ نوابه، المستنّين بسنته، والحافظين لشريعته، والناصحين لأمته، صلاة تكون لنا حُصناً من العذاب وجنة، وأمناً من الحساب وجنة.
عباد الله, أوصيكم ونفسي الجانية قبلكم بالتدثر بملاحف التقوى، والتمسك بالعروة الوثقى، ومراقبة الله سبحانه وتعالى في كل كبير من الأمور وصغير، وكل جليل وحقير، وأنْ لا تفتِنَكم الدنيا بمفاتنها، وتغريكم على مخالفة الله سبحانه ببريق بهارجها، فإنّها غادرة فاجرة، لا تستقيم على حال, ولا يستقر لعاشقها قرار، فلا تسوِّف التوبة والإقلاع عن الآثام، فإن الأعمار قد آذنت بالانصرام، ودواعي الموت قد طوَت في الوصول إليكم الليالي والأيام، فهاهي على الأبواب منتظرة للجواب، ولا حاجب يمنعها ولا بواب، إلا الأجل الموقّت لكم من الملك الديان, الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فكان، فإمّا إلى نعيم الجنان، وإما إلى عذاب النيران، وما برحنا في أودية الجهالة هائمين، وعلى سُرر الغفلة نائمين، لا ندري ما نُصبح عليه إذا طرق طارقُ المنيّة، وما نصير إليه إذا حلّت بنا تلك الرزية، فيا لله من يوم يخذل فيه الصديق، ويتبرّأ فيه الحميم الشفيق، يومٍ يكثر واتره, ويقل ناصره، وتطمّ وقائعه، وتعم فجائعه، يوم يُسلِمك فيه والدك العطوف، ويهرب منك بعد أن كان عليك الشفيق الرؤوف، يومٍ تصبح فيه جيفة منتنة، بعد أن كنت بتلك الصورة الحسنة، يوم تُنقل من القصور المشيدة، إلى القبور الملحدة، يوم تتحول من الفرش الناعمة والخدم والجِوار، إلى الحفرة المظلمة ذات الصخور والأحجار، فتُصبح بعد العز ذليلا، وبعد الأكل مأكولا، يوم يتبرأ منك الصاحب والولد، وما يغني عنك غير عملك أحد، فإن قدمته صالحا فيا بشراك، وبالسعادة ما أحقك وأحراك، وإن قدمته طالحا فالويل لك في سفرك ومسراك، فبادر يا أخي لإصلاح العمل, قبل انقطاع الأجل، وتبيُّن كذب الأمل، فإن السير طويل، وحادي الرحيل نادى العجل العجل، وكم هولٍ ستلقى تنسى عنده أهوال الموت مع كونها شديدة، وكم من مصيبة تنزل بك فتنسيك هاتيك المصائب العديدة.
فيا من إليه المرجع والمآب، ويا من وعد بالعفو من رجع إليه وأناب، ويا من سمّى نفسه بالغفور التواب، ارحم من أسلمته إليك أيدي الأقارب والأحباب، وتغلّقت عليه دون بابك الأبواب، وانقطع منه إلا إليك الأسباب، ألا وإن الله سبحانه وتعالى قد خصَّ محمدا صلى الله عليه وآله بمزايا عظيمة لم يجعلها لسواه، وشرّفه بخصائص جليلة وحبَاه، وجعل من تلك الصفايا الجسام، أنّ الصلاة عليه وعلى آله من الكفّارات العظام، لمحوِ الذنوب والآثام.
اللهم صلِّ على طُهرِ الأطهار، ونُور الأنوار، المنتجب من خيرة الخيرة من آل نزار، صفي الملك الجبار، والمنصور على كل باغ بتأييد الملك القهار، النبي العربي المؤيّد, والرسول الأمي المسدّد, أبي القاسم المصطفى محمد.
اللهم صلِّ على نفسه العلوية، وروحه القدسية، الذي قصُرت العقول عن إدراك حقيقة ذاته، وحارت الأفكار في معجزاته وصفاته، فلذا ادُّعيَ له مقام الألوهية، ورفع عن حضيض المربوبية، الكوكب الثاقب، ذي الفضائل والمناقب، الإمام بالنص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
اللهم صلِّ على السيدة الجليلة، والعابدة النبيلة، المدنفة العليلة، ذات الأحزان الطويلة والمدة القليلة، البتول العذراء، أم الحسنين فاطمة الزهراء.
اللهم صلِّ على قرَّتَي العين، ونجمي الفرقدين، وسيدي الحرمين، ووارثي المشعرين، الإمام بالنص أبي محمد الحسن وأخيه الإمام بالنص أبي عبد الله الشهيد الحسين.
اللهم صلِّ على سيد الساجدين، ومنهاج المسترشدين، ومصباح المتهجدين، الإمام بالنص أبي محمد علي بن الحسين زين العابدين.
اللهم صلِّ على قطب دائرة المفاخر، وصدر ديوان الأكابر، ذي الصيت الطائر في النوادي والمحاضر، الإمام بالنص أبي جعفر الأول محمد بن علي الباقر.
اللهم صلِّ على الفجر الصادق، في ديجور الجهل الغاسق، والوميض البارق، في المغارب والمشارق، الإمام بالنص أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق.
اللهم صلِّ على البدر المحتجب بسحاب المظالم، والنور المبتلى بعداوة شر ظالم، زينة الأكابر والأعاظم، الإمام بالنص أبي إبراهيم موسى بن جعفر الكاظم.
اللهم صلِّ على من سطع نور كماله وأضاء، وطبق شعاع مجده الأرض والفضاء, شفيع محبيه يوم فصل القضاء، الإمام بالنص أبي الحسن الثاني علي بن موسى الرضا.
اللهم صلِّ على مجمع بحري الجود والسداد، ومطلع شمسي الهداية والرشاد، ملجأ الشيعة يوم التناد، الإمام بالنص أبي جعفر الثاني محمد بن علي الجواد.
اللهم صلِّ على الهمامَين السريين، والعالمين العبقريين، والسيدين السندين، والكوكبين الدريين، الإمام بالنص أبي الحسن الثالث علي بن محمد، وابنه الإمام بالنص أبي محمد الحسن العسكريين.
اللهم صلِّ على المدّخر لإحياء القضية، والنهوض بنشر الراية المصطفوية، وبسط العدالة بين كافة البرية، وإماتة كل بدعة زرية، صاحب المهابة الأحمدية، والشجاعة الحيدرية، باهر البرهان، وشريك القرآن، والحجة من الله في هذا الزمان، على جميع الإنس والجان، الإمام بالنص مولانا المهدي بن الحسن صاحب العصر والأوان.
عجل الله تعالى فرجه، وسهل مخرجه، ونشر على بسيط الأرض منهجه، وكشف به عنا ظلمات الفتن المدلهمة، وأزال عنا هذه المحن ببركة حياطته، ونجانا مما يراد بنا ببركة دعوته، وجعلنا من المؤمنين بإمامته، الموفقين لخدمته ونصرته، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
إن أبلغ ما تلاه التالون، وعمل بموجبه المهتدون، كلام من يقول للشيء كن فيكون، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[[6].
واستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات, إنه هو الغفور الرحيم والتواب الكريم.
[1] المزمّل: 6
[2] "صلاة الليل تبيض الوجه، وصلاة الليل تطيب الريح، وصلاة الليل تجلب الرزق"علل الشرائع - ج2 - ص363 - الشيخ الصدوق وكذا في بحار الأنوار - ج84 - ص 148 - العلامة المجلسي وفي بحار الأنوار – ج8 - ص 149 - العلامة المجلسي وفي وسائل الشيعة (آل البيت) - ج8 - ص149 الحر العاملي
[3] وسائل الشيعة (الإسلامية) - ج5 - ص271 - الحر العاملي
[4] ثواب الأعمال - ص42 - الشيخ الصدوق
[5] سورة العصر
[6] سورة النحل: 90
معلومات إضافية
- التاريخ الهجري: 27 جمادى الثانية 1420هـ
