عشاق الدنيا
الجمعة 9 محرم 1418هـ المصادف 16 أيار 1997م
الخطبة الأولى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي جلَّل أولياءه بسرابيل محنه ومصائبه، لينالوا بذلك رفيع منازله وجليل مراتبه، وضرب على أصفيائه قباب حزنه ونوائبه، فعدُّوا ذلك من جميل مواهبه، صرف أنظارهم عن التطلع إلى مقامات دار الغرور، وبغَّض إليهم العيش في رباع الديجور، ليحظوا عنده بالكرامة والحبور، وفتح بصائرهم على ما أعدَّه لهم في مجلس لقائه، وما ادخره من النعيم في دار كرامته لأحبَّائه، فصبروا على ما أصابهم في سجنها من عظيم بلائه، ولم يتألموا مما حلَّ بهم من كيد أعدائه.
نحمده سبحانه على ما وفَّقنا إليه عند تشتت الأهواء، من التمسك بالأئمة النجباء، ونشكره تعالى على ما هدانا إليه عند تفرق الآراء، من الالتزام بالحنيفية النوراء، ونسأله الصبر على ما حتم علينا من القضاء، والعافية مما يقبل عنده المحو والإمضاء، والحشر يوم العرض عليه مع السعداء، والسكن في جنانه مع الصديقين والشهداء.
ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تنزَّه عن ملاحظة العيون، وجلَّ عن التمثل في الأوهام والظنون، عالمٌ بما في الصدور مكنون، لا يضيع عنده أجر ما يعمل المؤمنون، ولا يفوته الظلمة والفاسقون، وهو فوق ما يصف الواصفون.
ونشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله عبده ورسوله، الباذل في سبيله مهجته، حتى أسالوا دمه وكسروا رباعيَّته، المضحي في رضاه بأهله وعشيرته، حتى استأصلوا من بعده ذريته، وعملوا على إبادة قرابته وعترته.
صلى الله عليه وعليهم صلاةً ترفع مراتبهم في عليِّين، وتُظهر فضلهم يوم الدين، وتجمعنا معهم في زمرة الشهداء والأنبياء والصديقين.
عباد الله, أوصيكم ونفسي الجانية قبلكم بتقوى الله سبحانه وتتبع مراضيه، والالتزام بأوامره ونواهيه، وتجنب محظوراته ومعاصيه، وأحذركم ونفسي من الركون إلى زينة هذه الدنية الماكرة، والاغترار بوعود هذه المحتالة الخاترة، فإن حبها والتعلق بها هو السبب الحقيقي للخسران في الآخرة، ألم تسمعوا قول النبي صلى الله عليه وآله: "حب الدنيا رأس كل خطيئة"[1]، فمن أشرب قلبه حبها، قادته إلى ارتكاب الموبقات، وزينت له فعل المحرمات، وهوَّنت عليه ما يأتيه من كبائر السيئات، وهل نبذ شرائع الله وكتبه، وحارب أولياءه، وكذب رسله، إلا عشاق هذه الدنيا، وبغاة نعيمها، المتشوِّفين إلى الرفعة فيها، أولئك الذين استحوذ عليهم الشيطان، ففتنهم بزينتها، وألهاهم بالتفاخر بها، وشغلهم بالتكالب عليها، حتى خالفت ألسنتهم قلوبهم، وزيَّنت لهم أنفسهم سوء عملهم، فمالوا عن الحق وهم ينظرون، وصدفوا إلى الباطل وهم يعلمون، وتجرَّأوا على الله سبحانه، غير ناظرين إلى إحسانه، ولا متقين لنيرانه، فأصبحوا كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلا.
انظروا إلى عشاق الدنيا، والعاملين لها وما فعلوه بذرية النبي المختار، كيف أعملوا فيهم السيف البتار، وشردوهم عن الأهل والديار، وصبوا عليهم المصائب والأكدار، ولا سيما ما فعلته الزمرة الأموية، والسلالة الشيطانية، وكلهم لصيقٌ ابن لصيق، وطليقٌ ابن طليق، بريحانة سيد المرسلين، وقرة عين سيدة نساء العالمين، وثمرة فؤاد أمير المؤمنين، يوم جيَّشوا عليه الجيوش والعساكر، وسدوا في وجهه الدروب والقناطر، ومنعوه من شرب الماء، وضيقوا عليه رحب الفضاء، وهم يعلمون أنه الإمام المفترض الطاعة عليهم من رب السماء، فحصروه مع أنصاره وأعوانه وأولاده وإخوانه في صحراء الاكتئاب، ومنعوهم من الطعام والشراب، وقتلوا تلك النفوس الزكية، ورموا بأجسادهم للنسور والذئاب، وعفروا تلك الوجوه النورية في التراب، لكي تصفو الدنيا لسليل آكلة الأكباد، وتتَّسق الأمور للأوغاد، وينفذ أمر بني أمية على رؤوس العباد، وتبقى بنات الطلقاء في القصور، وبنات رسول الله في مهب الصبا والدبور، لاطمات الصدور، داعياتٍ بالويل والثبور، نادباتٍ على تلك البدور.
فهذه يا إخوة الإيمان أحوال عشاق الدنيا وطلابها، وهذه أفعال الساعين للرفعة في هذه الدار, التي لا أمان لمن طمح لها، فهل في ذلك عبرةٌ لمعتبر، فيقيد نفسه بزمام الإيمان، قبل أن تُلقي برسنها للشيطان، فيوردها موارد الخسران، ودار المذلة والامتهان، ويجعلها وقوداً للنيران.
ثبتنا الله وإياكم على ولاية الأئمة المعصومين، ووَّفقنا معكم للتمسك بحبله المتين، والعمل بشرعه المبين، ونجانا جميعاً من الانخداع بما تسوسه الشياطين، وحشرنا في زمرة محمدٍ وآله الميامين، إنه على ما يشاء قدير، وهو بالإجابة حريٌ جدير.
إن أبلغ خطاب، كلام الله الملك الوهاب، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
]الْقَارِعَةُ & مَا الْقَارِعَةُ & وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ & يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ & وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ & فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ & فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ & وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ & فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ & وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ & نَارٌ حَامِيَةٌ[[2].
وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم, والتواب الحليم.
الخطبة الثانية:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله باعث الأنبياء والمرسلين، ورافع درجات الشهداء في عليين، جذب إلى حضيرة قدسه أرواحهم، وطيَّب في مراتع أنسه مراحهم، ألبسهم خلع البهجة والسرور، وفتح لهم حدائق المسرة والحبور، فعزفت نفوسهم عن دار الغرور، وما فيها من لذةٍ وسرور، واستعذبوا طعم المنايا، وكرعوا كؤوس البلايا، لنيل تلك المواهب والعطايا، وسلموا له الاختيار في الإيراد والإصدار، وتدرعوا بمدارع الاصطبار على ما جرت به الأقدار، ليفوزوا بعالي الدرجات في دار الأبرار.
نحمده سبحانه وهو أهل المحامد، ونستهديه لأنجح المقاصد، ونعوذ به من شر كل حاقد، ونلوذ بعزته من بغي كل قاصد، ونلجأ إليه في دفع الشدائد، ونعتمده في الخلاص من المكائد.
ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً نعلنها عند كل جاحد، ونلتزم بها وإن رغم المعاند، ونستظل بفيئها عند نزول الشدائد.
ونشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله عبده ورسوله الذي انتجبه وأرسله، وصفاه من كل دنسٍ وكمله، وبما امتحنه من البلاء على جميع الأنبياء فضَّله، شهادةً تبلغنا عند الله أعلى منزله، وتكون لنواقص أعمالنا مكمِّلة.
صلى الله عليه وعلى الهداة من ذريته وآله ما دارت الأفلاك السماوية، وسبَّحت الأملاك في العوالم العلوية، صلاةً تدفع عنا كل بلية، وتنقذنا من كل رزية، في هذه الدنيا وفي الحياة الأخروية.
أوصيكم عباد الله ونفسي الجانية قبلكم بتقوى الله سبحانه والتمسك بربقته، وتتبع مراضيه والعمل بطاعته، وأحذركم ونفسي قبلكم من اتباع خطوات الشيطان والدخول في ربقته، والاغترار بهذه الدار المشحونة بالمصائب والأكدار، والنوائب والأخطار، فإنها دارٌ قد ذمها خالقها في كتابه، وبغَّضها لأوليائه وأحبابه، حيث كشف عن بصائرهم فشاهدوا مقاعدهم في تلك القصور، بين الولدان والحور، ورأوا ما فيها من النعيم والحبور، فلذ لهم شرب كاسات الحتوف، وهان عليهم رشق النبال وضرب السيوف، ولذا بذلوا الأرواح في يوم الطفوف، حينما ازدحمت فيه على آل الرسول الصفوف، وازدلفت لقتالهم الألوف تلو الألوف، وأخذت الكلاب الأموية تمزق لحم الرسول، وتنهش بضعة الزهراء البتول، فهل يأسف على شيءٍ من الدنيا بعد الحسين مؤمن، أو هل يلتذ بشيءٍ من طيباتها موحد، فكيف يلتذ بمائها من يتصوَّر مولاه الحسين وقد حرم من الماء في حر الهجير؟ وكيف يلتذ بالنوم في القصور من يعلم أن ساداته تدمى منهم النحور، مجدلين على الرمال والصخور؟ فيالله من قلبٍ لا يتصدع لهذه الأمور، ويا عجباه من غفلة أهل هذه الدهور، فيا أيها الشيعة الأنجاب، ويا معشر المؤمنين الأطياب، ساعدوا مواليكم وسادتكم في هذا المصاب، لتفوزوا عند الله بجزيل الثواب، ففي خبرٍ عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال لمسمع بن عبد الملك: " أتدري ما صنع بالحسين؟ قلت إي والله واستعبرت, قال: رحم الله دمعتك, إما أنك من الذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا, إما أنك سترى عند موتك آبائي حضوراً لك وتسمع وصيتهم ملك الموت بك، وما يلقنك به من البشارة، ولملك الموت أرق عليك وأشد رحمةً بك من الأم الشفيق على ولدها، قال ثم استعبر واستعبرت معه"[3].
ألا وإن من أقرب القربات إلى الله وإليهم، وأجزل المثوبات لديه سبحانه ولديهم, هو إكثار الصلاة والسلام عليهم.
اللهم صلِّ على من خاطبته بأنك لعلى خُلُقٍ عظيم، حيث شرب من كأس الرضا والتسليم، لما أنزلته به من الخطب الفادح الأليم، فلذا فضلته على كل رسولٍ كريم، وشرفت بالانتساب إليه خليلك إبراهيم، المصطلي بنيران الأحزان مدى الأبد، والشارب بكاسات الأشجان التي لا تعد، النبي الأمي أبي القاسم المصطفى محمد.
اللهم صلِّ على من أناخت عليه بعده بكلكها المصائب، وأفرغت عليه هواطلها دِيَم النوائب، الإمام بالنص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
اللهم صلِّ على ذات الأحزان الطويلة، والمدة القليلة، المدنَفة العليلة، والسيدة الجليلة، البتول العذراء، أم الحسنين فاطمة الزهراء.
اللهم صلِّ على شمسي نهارها، وقمري أقطارها، ومصباحي دارها، الشارب بكأس السموم والمحن، الإمام بالنص أبي محمدٍ الحسن، ومن أُقيمت مآتمه قبل الميلاد، وطبَّق الحزن عليه السبع الشِّداد، محزوز الوريدين، ودامي الودجين، الإمام بالنص أبي عبد الله الشهيد الحسين.
اللهم صلِّ على من شرب بقية ذلك الكأس المشئوم، وتجرَّع فضل ذلك العلقم المسموم، المشتهر بابن الخيرتين، الإمام بالنص أبي محمدٍ علي بن الحسين.
اللهم صلِّ على من أضاءت بأنواره شموس الشريعة، وانطمست بأقمار رسومه البدع الشنيعة، وارتقت بفضل علومه مدارس الشيعة، صاحب الفضائل والمآثر، الإمام بالنص أبي جعفرٍ الأول محمد بن عليٍ الباقر.
اللهم صلِّ على من رفع أعلام الدين، وأخرس شقاشق المعاندين، بالحجج القاطعة والبراهين، لسان الحق الناطق، الإمام بالنص أبي عبد الله جعفر بن محمدٍ الصادق.
اللهم صلِّ على المتوشِّح برداء الخوف والتقية، المتقمص بقميص الهموم اليعقوبية، مُعبِّد مسالك المآثر والمكارم، الإمام بالنص أبي إبراهيم موسى بن جعفرٍ الكاظم.
اللهم صلِّ على من دانت بفضله علماء الملل والأديان، وأذعنت بصواب حكمته الإنس والجان، المسلم لربه في كل ما جرى به القضا، الإمام بالنص أبي الحسن الثاني علي بن موسى الرضا.
اللهم صلِّ على من أسكت بحجته ألسنة المعاندين، وأفلج بمنطقه لجاج الحاقدين، رافع علم الهداية والرشاد، وباني مدارس الجود والإرشاد، الإمام بالنص أبي جعفرٍ الثاني محمد بن عليٍ الجواد.
اللهم صلِّ على السيدين السندين، والكهفين المعتمدين، سيدي المشعرين، وإمامي الحرمين، أبي الحسن الثالث علي بن محمدٍ وابنه أبي محمدٍ الحسن العسكريين.
اللهم صلِّ على الطلعة القمرية، والأنوار البدرية، والشهامة الحيدرية، نور الله الذي لا يخبو، وسيفه الذي لا ينبو، المحيي لما اندرس من الفرائض والسنن، الإمام بالنص مولانا المهدي الحجة بن الحسن.
عجَّل الله تعالى فرجه، وسهَّل مخرجه، وبسط على وسيع الأرض منهجه، وجعلنا ممن يدخل في حياطة دعوته، ويسعد بالنظر إلى غرته، إنه هو الكريم المنان، ذو الجود والإحسان.
إن أحسن ما خُتم به الكلام، وأمتن ما وعته الأفهام، كلام الله ذي الفضل والإكرام، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[[4].
وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات إنه هو الغفور الرحيم.
[1] بحار الأنوار – ج51 ص258 – العلامة المجلسي
[2] سورة القارعة
[3] بحار الأنوار – ج44 ص289 – العلامة المجلسي
[4] سورة النحل:90
معلومات إضافية
- التاريخ الهجري: 9 محرم 1418هـ
