يوم الغدير والإمامة
الجمعة 19 ذو الحجة 1415هـ المصادف 19 أيار 1995م
الخطبة الأولى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين, بنصب سيد الوصيين, خليفةً لخاتم النبيين، وأتم لنا النعمة بتشريع الولاية لقائد الغرِّ المحجلين, ورفع راية الشرع المبين, برفع رسوله صلى الله عليه وآله ضبع السيد الكبير في يوم الغدير, أمام ذلك الجمع الغفير, فقطع بذلك الحجة على الكبير والصغير, حيث نصبه علماً للمهتدين، ومناراً للسالكين, وقائداً للموحدين.
نحمده سبحانه على ما ألهمنا من حب أولئك السادة الميامين, ونشكره على ما وفقنا له من الخضوع للنص المبين, وخصنا به من التمسك بحديث الثقلين, فجعلنا ببركة موالاتهم من الآمنين, في يومٍ تفر فيه الآباء من البنين, حيث خلقنا من فاضل طينتهم, فصارت قلوبنا مجبولةً على حبهم, وأنفسنا منشدةً إلى حضيرتهم.
ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, دامغ الأباطيل الخيبرية بسطوع براهين البيعة الغديرية, ودافع الترهات الأموية بإشراق أنوار الحقائق الحيدرية, ومؤيد براهين الشيعة الإثني عشرية بما أجمعت على ثبوت روايته الأمة الإسلامية.
ونشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله عبده الذي بعثه بالحق نذيرا, ورسوله الذي جعله للبرايا سراجاً منيرا, فبلغ الرسالة, وبالغ في الدعوة إليه ونصح, وجاهد في سبيله واجتهد في هداية الأمة وأفصح, فصبر على الأذى في جنبه, وتحمل مشاق العدى في حبه.
صلى الله عليه وآله الجهابدة الغرر, الشجرة المباركة التي من أخذ بأغصانها نجا من الخطر, ومن تفيأ أفنانها أمن في القبر ويوم المحشر.
عباد الله, لقد مر بكم أمس يومٌ هو عند الله عظيم, بل هو أعظم أيام السنة على الإطلاق, فيه أكمل الله الدين للمسلمين, وفيه أتم النعمة على المؤمنين, وفيه رضي الإسلام ديناً للمريدين, ألا وهو يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام, حيث تم فيه تعريف الأمة بوليِّها بعد رسولها, وقائدها عند فقد نبيها, ومرجعها عند اختلاف كلمتها, شُرعت فيه الإمامة أماناً من الفرقة, وأنزلت فيه الولاية توحيداً للكلمة, وهل يكمل الدين إلا بإيجاد وسيلة تضمن استمرار تنفيذه؟ وهل تكمل النعمة على المسلمين بمجرد إنزال القرآن وبيان الأحكام, وهي معرضةٌ للضياع والتلاعب؟ وهل يرضى الله سبحانه الإسلام ديناً للناس إذا كانوا بعد فترة وجيزة من تشريعه يهملونه وراءهم ظهريا, أو يحرفوا كلمه عن مواضعها, ويتلاعبون بأحكامه من أجل مصالحهم ومشتهياتهم, فيعود الأمر كما كان قبل الإسلام من أحوال الأمم السابقة التي طال عليها الأمد, وقست قلوبها, وبدلت أحكام ربها, بل تعدى بها الأمر أن حرفت كتبه, وغيرت قوله, مع أن هذه الرسالة هي الرسالة الخاتمة, إذ لا يرجى بعد محمد صلى الله عليه وآله نبيٌ يبعث, ولا بعد قرآنه كتابٌ ينزل؟ فما قيمة أن ينزَّل القرآن ثم لا توجد الضمانة الكافية للقيام بتطبيقه والعمل بأحكامه؟ القرآن بحد ذاته لا يحقق الغرض المنشود من إنزاله وهو حبرٌ على الورق من شاء عمل به ومن شاء تركه, فالقول بلزوم تشريع الإمامة وأنها فرع من النبوة هو القول المطابق لما تقتضيه طبيعة الأمور, فكما أنه سبحانه يختار من يبعثه نبياً أو رسولاً حسب علمه أنه الصالح لهذا الأمر حتى لا يحتمل في حقه ترك تبليغ شيء من التشريع لرغبةٍ أو رهبة, أو غرضٍ أو شهوة, وان ذلك من باب لطفه تعالى بعباده فإن مقتضى لطفه أن يتم هذه النعمة باختيار من يصلح للقيام بشرح هذا الشرع والسهر على تطبيقه على الوجه الأكمل على مدى تلك النبوة والرسالة؛ فكما أن مقام التبليغ يحتاج إلى ضمانة تؤمن من ترك شيء منه سهواً أو عمداً، فكذلك مقام التطبيق يحتاج إلى ضمان عدم إهمال شيء منه سهواً أو عمدا. والقول بالعدالة في هذا الموضع لا يحل المشكلة, فهو على فرض حصول العدالة الحقيقية إنما يمنع من تعمد المخالفة, لا أنه يمنع من حصولها مطلقا, هذا بالإضافة إلى احتمال الوقوع في فخ التلبس والتزييف, فكم من فاجرٍ تستر بلباس المتورعين, وكم من طامعٍ تزيَّى بزي الزاهدين. ليس ثمة إذاً من طريقٍ إلا أن يطيل الله عمر الرسول إلى الحد الذي ينتهي به أمد رسالته, أو يختار له أوصياء يعلم هو صلاحيتهم للقيام بهذه المهمة جيلاً بعد جيل، ووصياً بعد وصي.
إن القول بأن أمر الخلافة والإمامة متروك للناس بأي معنى أخذ، سواء خصص في عشيرة واحدة, أو جعل في أهل الحل والعقد, أو جعل شورى بين كافة أفراد الأمة, لا يحل مشكلة الانحراف بالدين شيئاً فشيئاً عن مساره حتى تضمحل روحه, ويشل عن التحكم في مصائر الأمور, إضافةً إلى ما يثير ذلك من جدلٍ بل وحروبٍ طاحنةٍ بين فئات الأمة وأحزابها, وصراعٍ بين مراكز القوى فيها, أو ربما أدى كما هو حادث بالفعل إلى تشتت شملها, وتفكك عرى أواصرها بسبب الرغبة في الحكم وشهوة السيطرة من جهة, ولاختلاف الآراء والأهواء من جهةٍ أخرى، وليت من قالوا لنا أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ترك الأمر لأمته تختار لنفسها من ترضاه بطريق البيعة والشورى دلونا على ما شرعه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله من نظامٍ مؤصلٍ لتلك الشورى التي يريد أن يقوم النظام على أساسها, أم أنه ترك الأمة أيضاً تضع لنفسها ما ترغب فيه من نظام وبذلك يتخلى الدين عن الحكم كليةً ليعود مجرد طقوسٍ عبادية ووصايا إرشادية لا تلزم أحداً في شؤون دنياه.
إن ما يعيشه المسلمون اليوم من هذا التمزق, والتفرق, والضعف، والوهن، والذلة بين سائر الأمم, وما تحياه شعوب الأمة وأفرادها داخل بلدانهم من القهر والفقر والظلم من ولاة الأمور كله راجع إلى عدم الأخذ بنظام الإمامة المعصومة القائمة على النص الصادر من الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله, وسوف يبقى المسلمون شاؤوا أم أبوا في بلدانهم يعيشون القهر والامتهان والحرمان من ولاة الأمور؛ ولا يحل نظامٌ أرضيٌ مشكلة العدالة؛ الحاكم الأرضي قد يرفع الظلم من على كاهل قومٍ أو جماعة ويضعه على كاهل قومٍ أو جماعةٍ أخرى، لن تجد حاكماً غير معصوم يساوي من حاربه بمن ناصره، وعندئذ لا تحل مشكلة العدالة ولن تنتهي مشكلة الفقر، لأن غير المعصوم لا يعرف كيف يتصرف في الأموال تصرفاً يرفع به الفقر، لن تحل مشكلة العدالة ولن تحل مشكلة الفقر ولن تحل مشكلة العزة والذلة للمسلمين حتى يقيض الله لهم الفرج على يد خاتم أوصياء محمد صلى الله عليه وآله.
نسأل الله سبحانه أن يهدينا جميعاً للعمل بأحكامه, والتمسك بكتابه، والسير على صراطه, وأن ينجينا من مغبات الهوى, وينقذنا من دركات العمى إنه سميع مجيب.
إن أفضل ما وشح به الكلام, وأفضل ما وعته الأفهام, كلام الملك العلام, أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
]قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ & اللَّهُ الصَّمَدُ & لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ & وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد[[1].
وأستغفر الله لي ولكم إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الدائم إحسانه, العظيم امتنانه, العلي مكانه, العزيز سلطانه, الواسع حلمه, النافذ حكمه, المحيط علمه, لا تعتوره زيادةٌ ولا نقصان, ولا تغيره الدهور والأزمان, منيرٌ كتابه, شديدٌ عذابه, ضرب الأمثال، وحذر من الزيغ والضلال, ودعا إلى صالح الأعمال.
أحمده سبحانه حمداً يدفع الإعواز, ويملأ الأحياز. وأشكره تعالى شكراً متصل الإمداد, متوالي الأعداد. وأسأله التوفيق لطرق الهداية والرشاد, والفوز بالعفو يوم المعاد.
وأشهد ألا إله إلا الله الواحد لا بالآحاد, المنزه عن تصورات ذوي الإلحاد, المترفع عن الشركاء والأنداد, المتكبر عن اتخاذ الأبناء والأولاد.
وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله عبده المصطفى من بين العباد, المصفى من الشك والعناد, بعثه بالبرهان الساطع, والسيف القاطع. دمغت معجزاته البراهين والأدلة, وطمست طلعته أنوار الشموس والأهلة, ونسخت شريعته الغراء كل شرعةٍ وملة.
صلى الله عليه وعلى ابن عمه البدر المنير, جناحه الذي به يطير, ومصباحه الذي به ينير, وعلى آلهما مصابيح العصمة, ومفاتيح الرحمة, وخزائن الحكمة, وأنوار الظلمة, وهداة الأمة, صلاةً تكشف بها عنا هذه الغمة وكل غمة.
عباد الله أوصيكم بادئاً بنفسي القاسية الذاهلة الناسية, التي تحملت من الآصار ما أظلمت بها الديار, وارتكبت من الأوزار ما كدرت بها المزار. فأوصيكم وإياها بتقوى الله سبحانه, فبها ينال جوده وامتنانه, وفيضه وإحسانه. والتقوى عصمةٌ للخائفين, ومظلةٌ للاجئين, وملجأٌ للناجين. عباد الله اغسلوا ألواح القلوب من درن الذنوب, تفوزوا غداً بالمطلوب, وتسعدوا بلقاء المحبوب. وجردوا أنفسكم للعبادة, وشمروا تشمير أهل السعادة, واجتهدوا في الأعمال الفاخرة, لتربح تجارتكم في الآخرة. ولا تغتروا بما ترونه من الزينة الظاهرة, على هذه الفاتنة العاهرة, والماكرة الخاترة, ففي صحيحة عمر بن يزيد عن الصادق عليه السلام قال: "في التوراة مكتوب: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى ولا أكلك إلى طلبك وعلي أن اسد فاقتك وأملأ قلبك خوفا مني وأن لا تفرغ لعبادتي أملأ قلبك شغلا بالدنيا, ثم لا أسد فاقتك وأكلك إلى طلبك"[2].
فاغتنموا رحمكم الله فرص الشباب قبل الهرم, وأيام الصحة قبل السقم, واملؤوا يومكم هذا الذي هو سيد أيامكم, وعيدكم على ممر أعوامكم, بنفائس الطاعات, وعرائس القربات, وأكثروا فيه من الصلوات على أرباب السعادات محمد وآله الهداة.
اللهم صلِّ على المبعوث إلى كافة الأنام, المظلل بالغمام, المرسل رحمةً للموحدين، ونقمةً على الملحدين والمشركين, الحصن الإلهي المشيد, والنبي العربي المسدد، أبي القاسم المصطفى محمد.
اللهم صلِّ على عيبة العلوم الربانية, وخزانة الأسرار السبحانية, باب مدينة حكمة النبي وعلمه, الراضع من مشكاة فهمه وحلمه, القائم بتنفيذ وصيته وحكمه, الشهاب الثاقب، سيد بني لؤي بن غالب، الإمام بالنص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
اللهم صلِّ على الدرة الزاهرة, والجوهرة الفاخرة, والمطهرة الطاهرة, سيدة نساء الدنيا والآخرة, البتول الغراء, أم الحسنين فاطمة الزهراء.
اللهم صلِّ على شنفي الفتوة والشهامة, وقرطي النبوة والإمامة, اللابسين سرابيل المصائب والمحن, والمتجرعين كؤوس الغدر والضغن, الإمام بالنص أبي محمدٍ الحسن, وأخيه الشهيد السعيد, المجدل على الصعيد, الإمام بالنص أبي عبد الله الحسين الشهيد.
اللهم صلِّ على نور حدقة اليقين, ونور حديقة المتقين, وسراج ليل المتهجدين, ومصباح محراب المتعبدين, الإمام بالنص أبي محمدٍ علي بن الحسين زين العابدين.
اللهم صلِّ على مؤسس معاهد العلم والمعارف, وناشر راية الحقائق واللطائف, كنز المجد والمفاخر, الإمام بالنص أبي جعفرٍ محمد بن عليٍ الباقر.
اللهم صلِّ على مجدد الشريعة, وباني حصونها المنيعة, غواص بحار الحقائق, وفتاح غوامض الدقائق, الإمام بالنص أبي عبد الله جعفر بن محمدٍ الصادق.
اللهم صلِّ على بدر سماء المكارم, وعنوان صحيفة الأعاظم, المرموز له بين الشيعة بالعالم، الإمام بالنص أبي إبراهيم موسى بن جعفرٍ الكاظم.
اللهم صلِّ على السيد المرتضى, المسلم لما جرى به القدر والقضاء, الضامن لنجاة زواره في يوم الفصل والقضا, الإمام بالنص أبي الحسن الثاني علي بن موسى الرضا.
اللهم صلِّ على ربان سفينة الهدى والرشاد, ورافع راية الحق والسداد, ومن عليه المعول في الإصدار والإيراد, الإمام بالنص أبي جعفرٍ الثاني محمد بن عليٍ الجواد.
اللهم صلِّ على سيد الحضر والبوادي, المشتهرة مكارمه في كل وادي, والمنتشرة فضائله بين كل رائحٍ وغادي, الإمام بالنص أبي الحسن الثالث علي بن محمدٍ الهادي.
اللهم صلِّ على السيد السري, والهمام العبقري، والليث الجري، الطالع شرفاً على هام الزهرة والمشتري, الإمام بالنص أبي محمدٍ الحسن العسكري.
اللهم صلِّ على محيي معالم الدين بعد اندراسه, ومقيم رسوم الحق بعد انطماسه, المخدوم بأيدي القضاء المبرم, الذي يصلي خلفه عيسى بن مريم, باهر البرهان، وشريك القرآن, مولانا المهدي بن الحسن صاحب العصر والزمان.
عجل الله تعالى أيام دولته القاهرة, وكشف به عنا الغم في الدنيا والآخرة, ووفقنا لاستجلاء طلعته الزاهرة, إنه هو الكريم المنان، ذو الجود والإحسان.
إن أبلغ ما وعظ به واعظ, وأشرف ما تلفظه لافظ, كلام الله الملك الحافظ, أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[[3].
وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات إنه غفورٌ رحيم.
[1] سورة الإخلاص
[2] الكافي – ج2 ص83 – الشيخ الكليني
[3] سورة النحل: 90
معلومات إضافية
- التاريخ الهجري: 19 ذو الحجة 1415
