وسائط
فضل العلماء ووجوب احترامهم
الجمعة 21 ربيع الثاني 1414هـ المصادف 8 تشرين الأول 1993م
الخطبة الأولى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أبدع طبائع الأشياء بمقتضى حكمته الشاملة الأزلية، ورتَّب أجزاء الكون على نظامي التضايف والعلِّية, لينير السبيل أمام العقول لإدراك وجوب وجود ذاته المقدَّسة العَلية. صنع ما صنع من الموجودات من دون احتذاء مثالٍ أو إجالة روية, فتق السماوات والأرض بعد أن كانتا رتقاً بقدرته الإلهية, ورفع الخضراء بدون عمدٍ مرئية, وجعلها عوالم ومجراتٍ لا يعلم عددها ولا حقيقة ما فيها أحدٌ ممن سكن الوطية, وبسط الغبراء على الماء لتصبح ملائمةً لمن شاء أن يُسكنهم عليها من أصناف البرية. جل مجده عن الحلول والزمان والمكان، وتقدَّست عظمته عن مقارنة الأجسام والأكوان.
فله الحمد كما ينبغي له على عميم النعم المتواترة, التي من أعظمها نصب الآيات الباهرة, العاصمة لذوي الألباب من غلبة الأوهام الخاطرة, ومن أتمها جعل الدلالات الظاهرة. وله الشكر على أياديه المتكاثرة, وآلائه المتضافرة, شكر مستزيدٍ من فيض ديم جوده الهامرة. ونسأله التوفيق لخير الدنيا والآخرة.
ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, تفرَّد بالقدم في الوجود, فهو الأول في الإبتداء, الباقي بعد فناء الأشياء, فطر عقول الخلق على إدراك أزليته وأبديته, وشرح نفوسهم للإيمان بربوبيته وإلهيته.
ونشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله عبده الذي اصطفاه بعلمه وإرادته, وبعثه بالرسالة إلى كافة من وجب عليهم التكليف من إنسه وجِنَّته, وجعل رسالته خاتمة الرسالات فلا نبي يرتجى بعد إكمال مهمته, وأمره صلى الله عليه وآله بنصب ابن عمه علياً خليفةً له في أمته, وإقامته مقامه في شرح كتاب ربه ونشر سنته, وتسيير أحكامه في بريته.
ونصلي عليهما وعلى الأئمة الهادين من ذريتهما, صلاةً تدوم بدوام الدنيا والدين, وتقتضي الرضا من رب العالمين, وتؤهل لنيل الشفاعة من سيد المرسلين, والفوز بالجنة مع الصِّديقين.
عباد الله أوصيكم ونفسي قبلكم بامتثال أوامر الله سبحانه والانزجار عن نواهيه, فإنه لا طريق إلى مرضاته إلا بطاعته, ولا سبيل إلى الفوز بجنته إلا بالسير على شريعته, والتمسك بهديه, ولزوم جادته التي أمر عباده بالسير فيها باتباع آثار أوليائه, والاستنان بسنن رسله وأنبيائه, وإياكم واستحلاء شهوات هذه الدنيا والانزلاق في حبائلها, فإنها عدوةٌ ماكرة, ومتصيدةٌ خطرة، تغري عشاقها بأكل العلقم فيخالونه العسل من حلاوته, وتسقي محبيها نقيع أنيابها فيخالونه الشهد من عذوبته, فلا يزالون من خمرة حبها ثملين, وبنشوة ألحانها طربين, وعما يصلحهم في مآلهم غافلين, تمدُّهم بطول الأمل, وتحضهم على تسويف العمل, وتُوقعهم في شباك عدوهم بالحيل, حتى إذا دنت منهم الآجال, وحُملوا على رؤوس الرجال, وحوسبوا على ما أتوا من الأعمال, أفاقوا من نومتهم, وعضوا الأنامل على ما فرطوا في حق أنفسهم, وتذكروا قول بارئهم: ]وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ[[1].
فاعملوا رحمكم الله على الإفلات من وثاقها, وجاهدوا أنفسكم للخلاص من أسرها, وانظروها بعينٍ صحيحةٍ لم يُعشِها عشقها, وتذكروا قول بارئكم: ]وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى& فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى[[2].
جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, إنه بنا رؤفٌ رحيم.
إن خير ما خُتم به خطاب, وعمل به ألوا الألباب, كلام الله المستطاب, أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
]الْقَارِعَةُ & مَا الْقَارِعَةُ & وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ & يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ & وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ & فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ & فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ & وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ & فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ & وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ & نَارٌ حَامِيَةٌ[[3].
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم انه غفور رحيم وتواب حليم.
الخطبة الثانية:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ذي المجد والكبرياء, والعزة والبهاء, خلق من الدخان أفلاك السماء, وصنع من الزبَد أقاليم الغبراء, فطر العقول على معرفته, ولولا ذلك لتكأَّدت كثيراً من العناء, وفتح لها طرائق النظر في بدائع صنعته وأصناف مخلوقاته, لتُدرك شيئاً من الحكمة فلا تجحد أسماءه الحسنى.
نحمده على جليل نعمه والحمد من نعمه العظمى, ونشكره على عطاياه والشكر من آلائه الكبرى.
ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, شهادةً نستدفع بها نوازل البلاء, ونستجلب بها أسباب الرضا, تقدس عن ملامسة النساء, واستغنى عن الشركاء والأبناء.
ونشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله سفيره في بريته, ورسوله الى عامة خليقته, أنزل عليه الكتاب بالحق وأمره بإعلان دعوته, وجعله دليلاً إلى جوادّ طاعته, فبلَّغ رسالات ربه, وبشر المذنبين ليفوزوا بالمسارعه الى التوبة عن معصيته, وأنذر المنيبين أن ينزلقوا في مهاوي معصيته, اللهم صلِّ عليه صلاةً تبلغ معاقد العز من عرشك, وتدوم بدوام مُلكك, وتفتح أبواب رضاك والأنس بقربك, وعلى ابن عمه عليٍّ الذي كشفت به كربته, وفرجت به غمته, وشددت به أزره.
وصلِّ اللهم على الأئمة الهادين من ذريتهما خلفائه في أمته, الناشرين لدعوته, الراوين لسنَّته, المبينين أحكامه, الرافعين أعلامه, ]أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ[[4].
أما بعد فإن الله سبحانه وتعالى فطر الناس على احترام حملة الدين, وتقدير علماء العقيدة وتبجيلهم, ولذلك نجد الأمم على اختلاف أديانها وتباين نحلها وعقائدها, مجمعةً على تبجيل علمائها, واحترام كُهَّانها, وتقديس أحبارها ورهبانها, بل يعدون ذلك من ضرورات الحضارة والتمدين, ومن أجل ذلك نجدهم يحترمون من تلبس بلباس العلماء وإن كان يمثل ديناً مناقضاً لعقيدتهم, وأن المساس بعلماء الأديان في نظرهم لا يدل إلا على الجهل والتوحش, حتى أن بعض الأمم التي أجازت لأنفسها نقد كبرائها وإبراز معائب زعمائها استثنت نظمها وقوانينها رجال الأديان المعترف بها في بلدانها, فمنعت من عيبهم, وإعلان أخطائهم وهفواتهم, وعاقبت على انتقادهم, فما أحرانا نحن المسلمين أن نكون السبَّاقين إلى هذا الخلق السامي والسلوك الفطري, وقد نصَّ كتابنا على تبجيل العلماء صراحةً لا تلويحا, فقال سبحانه من قائلٍ في بيان آداب المجالس والمحافل: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات[[5]. فجعل سبحانه الصدارة في المجالس للذين أوتوا العلم من المؤمنين إيذاناًً برفع مقامهم, وبياناً إلى لزوم تبجيلهم واحترامهم, وقال نبينا صلى الله عليه وآله: "فضل العالم على الجاهل كفضلي على أدناكم"[6]؛ ولا شك أن عقيدة المسلمين قائمةٌ على أنه صلى الله عليه وآله أفضل من كل من خلق الله سبحانه من مَلَكٍ مقرَّب, أو نبيٍ مرسَل, فكيف بالمقارنة بين درجة فضله بالنسبة لأدنى الناس.
واعلموا يا عباد الله أن الدين لا يقوى بكثرة معتنقيه وإن كانوا غثاءً كغثاء السيل, وإنما يقوى بالتزام أهله به, والتفافهم حول حملته, واختلافهم إلى علمائه, يرشدكم إلى ذلك شاهد المقارنة بين ما مر من تاريخ هذه الامة وبين حاضرها, فلقد كانت في الدنيا عزيزةً موقرة, يوم كانت ملتفةً حول من تعتقد بحملهم للدين, وإن كانوا في حقيقتهم من الظالمين مع قلة عددها, وكيف هانت على العالم في وقتٍ تجاوز فيه عددها مئات الملايين, فلا تقوى العقيدة ولا تعز الأمة إلا بالتفاف الناس حول العلماء, واحترامهم لذوي الفضل والصلاح, ولعل في أسلوب القرآن الكريم ما يرشد إلى هذه الحكمة, فإن الله سبحانه أنزله لكافة خلقه, وجعله دليلاً على صدق رسوله, وآيةً خالدةً لإثبات دينه وشريعته, ومع ذلك لم يجعله في جميع آياته واضحاً مفهوماً لكافة الناس, وإن كانوا من البلغاء المتمرسين, والفقهاء العارفين, ولقد استلفتت هذه النكتة الصحابي الجليل سليم بن قيسٍ الهلالي رضوان الله عليه فسأل عنها أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال له في جوابه: إن الله لم ينزل كل كتابه واضحاً مفهوماً حتى لا يدعي الناس الاستغناء به عن أولي الامر الذين نصبهم الله سبحانه[7].
فالعلماء ورثة الأنبياء, وخلفاء الأوصياء, والقوامون على الشريعه بين صفوف الأمة, الحامون ذمارها, الدافعون عنها, الداعون لها بالحكمة والموعظة الحسنة, فما أحرانا بتقدير العالم وتبجيله, خاصةً إذا كان ممن له الخدمات الجُلَّى, والأيادي البيضا, مثل صاحب الفضيلة الشيخ عبد الحسن مدَّ الله في عمره, فقد خدم الناس والدين طيلة عمره بكل ما يقدر عليه, إضافةً إلى رفيع خلقٍ حباه الله به من التواضع للصغير والكبير والشفقة على الأرامل والأيتام والفقراء, ولقد كان مولعاً بالمستحبات, مواظباً على الصلوات والواجبات, وكان كل همه أن يبقى قائماً بأعباء الجماعة والجمعة طيلة عمره, وأنه لم يتركها إلا بناءً على نصيحة الأطباء الذين ألزموه بذلك, مدَّ الله في عمره, ومتَّعنا بطول حياته.
فالتفوا رحمكم الله حول علمائكم, وعاملوهم بالتقدير والتبجيل كما أوصاكم نبيكم, وحثتكم عليه نصوص أئمتكم, ولا تسمحوا للجهلة الذين لا يبالون من الإيضاع في من لم يسر على أهوائهم, ولا للمأجورين المندسين في صفوفكم, بتوهين أمرهم, أن ينالوا منهم, أو يشوهوا سمعتهم, فإنهم حملة دينكم, وخلفاء أئمتكم, المدافعون عن شريعتكم, وبادروا إلى أداء حق الولاء, بإكثار الصلاة والسلام على أعلم العلماء, وأفضل الفضلاء محمدٍ وآله الأزكياء .
اللهم صلِّ على من خاطبته بلولاك لما خلقت الافلاك, وأخدمته الأملاك, وقربته إليك قاب قوسين, وفضلته على جميع النبيين, الرسول المؤيد, والنبي المسدد, أبي القاسم المصطفى محمد.
اللهم صلِّ على كشاف الكربات عن وجه سيد المرسلين, وخواض الغمرات دفاعاً عن حوزة الدين, قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين, سيفك الضارب, أمير المؤمنين علي بن أبي طالب .
اللهم صلِّ على سليلة خاتم الأنبياء, وحليلة سيد الأوصياء, ووالدة الأئمة النجباء, أم الحسنين فاطمة الزهرا.
اللهم صلِّ على قرة عين الرسول, وثمرة فؤاد البتول, وخليفة عليٍ البطل الصؤول, العالم بالفرائض والسنن, الإمام بالنص أبي محمدٍ الحسن.
اللهم صلِّ على ريحانة الرسول الأمين, وسلالة أمير المؤمنين, المفتجع بقتله سيد المرسلين, المغدور عداوةً لسيد الوصيين, المجتمع على قتاله كل كفار عنيد, الإمام بالنص أبي عبد الله الحسين الشهيد.
اللهم صلِّ على سيد الساجدين وخير العابدين, الحافظ لشريعه سيد المرسلين, الإمام بالنص علي بن الحسين زين العابدين.
اللهم صلَِّ على الطيب الطاهر, والنقي الفاخر, باقر علوم الأوائل والأواخر, الإمام بالنص أبي جعفر محمد بن عليٍ الباقر.
اللهم صلِّ على كاشف الحقائق وشارح الدقائق, لسانك الناطق, الإمام بالنص أبي عبد الله جعفر بن محمدٍ الصادق.
اللهم صلِّ على ذي المجد الأثيل, والشرف الأصيل, المقتول بأمر شر ظالم, الإمام بالنص أبي إبراهيم موسى بن جعفرٍ الكاظم.
اللهم صلِّ على أحكم من حكم وأقضى من قضى, البالغ في الفضل الدرجات العليا, الإمام بالنص أبي الحسن علي بن موسى الرضا.
اللهم صلِّ على القائد إلى سبيل السداد, والداعي إلى منهج الصدق وطريق الرشاد, الإمام بالنص أبي الحسن محمد بن عليٍ الجواد.
اللهم صلِّ على ضياء النادي, ومرشد الحاضر والبادي, الإمام بالنص علي بن محمدٍ الهادي.
اللهم صلِّ على ذي الشرف السَنيّ, والأصل العليّ, صاحب الهمم الأبيّ, الإمام بالنص أبي محمدٍ الحسن بن علي.
اللهم صلِّ على بقية الصالحين, وخاتم الوصيين, ماحق الكالفرين, وناشر أعلام الدين, مبين الفروض والسنن, الإمام بالنص الحجة بن الحسن.
اللهم انصره وانتصر به, وأعزّه وأعزز به, واجعل له من لدنك سلطاناً نصيرا, وأره في شيعته ومحبيه ما تقر به عينه, اللهم ثبتنا على القول بإمامته, وأرنا طلعته, ولقِّنا شفقته, واجعلنا ممن تناله دعوته, وكرِّمنا بنصرته.
إن أحسن كلامٍ وأبلغ خطاب, كلام العليِّ الوهاب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[[8].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم, إنه غفورٌ رحيم, وتوابٌ حليم.
[1] سورة آل عمران: من الآية185
[2] سورة النازعات: 40 - 41
[3] سورة القارعة
[4] سورة البقرة: 157
[5] المجادلة: من الآية 11
[6] تاريخ مدينة دمشق – ج63 ص116 – ابن عساكر
[7] "عن سليم بن قيس الهلالي قال: قلت لأمير المؤمنين عليه السلام: إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن نبي الله صلى الله عليه وآله غير ما في أيدي الناس، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي الله صلى الله عليه وآله وأنتم تخافونهم قيها، وتزعمون أن ذلك كله باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدين، ويفسرون القرآن بآرائهم؟ قال: فأقبل علي فقال: قد سألت فافهم الجواب.
إن في أيدي الناس حقا وباطلا، وصدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا، وعاما وخاصا، ومحكما ومتشابها، وحفظا ووهما، وقد كُذب على رسول الله صلى الله عليه وآله على عهده حتى قام خطيبا فقال: أيها الناس قد كثرت عليّ الكذّابة فمن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ثم كُذب عليه من بعده، وإنّما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس: رجل منافق يُظهر الإيمان، متصنع بالإسلام لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدا، فلو علم الناس أنه منافق كذّاب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول الله صلى الله عليه وآله ورآه وسمع منه، وأخذوا عنه، وهم لا يعرفون حاله، وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره فوصفهم بما وصفهم فقال عز وجل: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)، ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولّوهم الأعمال، وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله، فهذا أحد الأربعة. ورجل سمع من رسول الله شيئا لم يحمله على وجهه ووهم فيه، ولم يتعمد كذبا فهو في يده، يقول به ويعمل به ويرويه فيقول: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوه ولو علم هو انه وهم لرفضه. ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ، ولو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه. وآخر رابع لم يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله، مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه وآله، لم ينسه، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع لم يزذ فيه ولم ينقص منه، وعلم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ، فإن أمر النبي صلى الله عليه وآله مثل القرآن ناسخ ومنسوخ وخاص وعامومحكم ومتشابه قد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله الكلام له وجهان: كلام عام وكلام خاص مثل القرآن وقال الله عز وجل في كتابه: مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله صلى الله عليه وآلهوليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآلهكان يسأله عن الشيء فيفهم وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه حتى أن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطاري فيسأل رسول الله صلى الله عليه وآله حتى يسمعوا. وقد كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري، فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله صلى الله عليه وآلهأكثر ذلك في بيتي، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عنّي نساءه. فلا يبقى عنده غيري، وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بني، وكنت إذا سألته أجابني وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصها وعامها، ودعا الله أن يعطيني فهمها، وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علما أملاه عليَّ وكتبته، منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك شيئا علّمه الله من حلال ولا حرام، ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته، فلم أنس حرفا واحدا، ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكماً ونورا، فقلت: يا نبي الله بأبي أنت وأمي منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئاً ولم يفتني شيء لم أكتبه أفتتخوف عليَّ النسيان فيما بعد؟ فقال: لا لست أتخوف عليك النسيان والجهل."الكافي – ج1 ص62 – الشيخ الكليني.
[8] سورة النحل: 90
معلومات إضافية
- التاريخ الهجري: 21 ربيع الثاني 1414
