almuhadhrat

اختلاف العلماء في إثبات الهلال

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين. 

       من الموضوعات التي تتخذ في معظم الأحيان لانتقاد العلماء والانتقاص منهم اختلافهم في إثبات الأهلة, فكثير ممن لا معرفة له بشؤون الفقه وشؤون الأحكام يتخذ هذا نقداً وعيباً على العلماء, وقد استغل أو استُغل هذا الموضوع أيضا من الفئات المعادية للفكر الإسلامي وللعقيدة الإسلامية كالشيوعيين وغيرهم من أصحاب المبادئ الأخرى لمحاولة إبعاد الشباب عن العلماء, يضخمون قضية الاختلاف في الأهلة، وأحياناً يثيرون تحزبات بين الناس بسبب الاختلاف في الأهلة, فإذا اختلف العلماء في هلال صوم أو في هلال فطر أو في هلال حج جاء المغرضون وحزبوا الناس, فتجد مثلاً من أفطر يقدح في العالم الذي لم يفطر, ومن لم يفطر - بسبب متابعته لعالم لم يفطر - يقدح في العالم الذي أفطر, وبطبيعة الحال فإن معظم الناس ليسوا مغرضين، وإنما بسبب الجهل بطرائق إثبات الأهلة وأساليب إثباتها يتصورون أن ذلك ناتج من حزازات شخصية، وعنعنات ذاتية بين العلماء, فيوجهون لهم الانتقاد, ومن أجل ذلك نود أن نلقي نظرة موجزة على أساليب إثبات الأهلة وكيف ينظر  العلماء في هذا الموضوع, وما هي الموارد التي يختلفون فيها والموارد التي لا يختلفون فيها.

أصل الموضوع أن الأهلة أو إثبات دخول الشهر القمري العربي يكون برؤية الهلال؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته", والمسلمون كلهم على أن الهلال أو على أن الشهر يبتدئ من حين رؤية الهلال في أفق السماء, باستثناء الإسماعيلية فإنهم يرون أن الشهر يبتدئ من حين دخول القمر في حيز المحاق, فإذا دخل القمر في حيز المحاق يكون الشهر عندهم قد دخل, وقد يكون ذلك في الليلة الثامنة والعشرين أو الليلة التاسعة والعشرين، ولا يصل إلى ليلة الثلاثين طبعاً.

طبيعي أن هذا الموضوع  - موضوع الإسماعيلية - خارج عن موضوع البحث والمناقشة لأنه يباين أو يناقض قوله صلى الله عليه وآله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، مناقضة واضحة, فإن الهلال يرى إذا خرج من حيز شعاع الشمس لا فيما إذا دخل في الظل المخروطي للأرض؛ لأن حالة المحاق معناها دخول القمر في ظل الأرض بحيث يكون على خط قدره 180 درجة مستقيماً مع الشمس, فعندئذ لا يمكن أن يرى لأنه إذا توسطت الأرض بينه وبين الشمس تحصل حالة خسوف, وإذا كان في هذا المجال وكان فوق الأرض يكون واقعاً في منطقة شعاع الشمس فلا يمكن أن يرى, والأمر إنما هو الصيام والنظر بالرؤية.

فاختلاف سائر المسلمين مع الإسماعيلية في هذا الموضوع نظراً لأن النبي صلى الله عليه وآله عيّن رؤية الهلال أو عيّن مبدأ الشهر برؤية الهلال, والإسماعيلية إنما عملوا ذلك متابعة لبعض طوائف الهند وجروا عليه عندما صاروا في الهند, وأما عندما كانوا في مصر؛ يوم كانوا يحكمون مصر أيام الدولة الفاطمية فكانوا يسيرون على طريقتين؛ طريقة تعرف بطريقة الجدول, وطريقة تعرف بطريقة الحساب, ولذلك تجد أن الفقهاء ينصون أن الجدول لا عبرة به وأن الحساب لا عبرة به, ويقصدون الطريقتين الإسماعيليتين اللتين كانتا تستعملان في مصر أيام الإسماعيلية، وفي القرون الأخيرة عندما انتقل الإسماعيلية بشقيهم المؤمنية والنزارية إلى الهند عملوا بموجب قانون بعض الطوائف الهندية وهو تعيين أن الهلال أو أن مبدأ الشهر يبتدئ من حين دخول القمر في حيز المحاق.

على أي حال نحن لا نناقش هذا القول؛ وإن كان الإسماعيلية عند سائر المسلمين محسوبين على الشيعة.

مبدأ الهلال أو مبدأ الشهر هو رؤية الهلال, ويسمى هذا بالشهر الشرعي, وهناك شهر آخر مبدؤه حساب معين يعتمده علماء الهيئة, ويسمى هذا بالشهر التقويمي, نجد أن التقاويم تبني على هذا النحو من الحساب وتعين أول الشهر وآخر الشهر, وهذا يسمى شهراً تقويمياً, والشهر التقويمي هو أن يحسب تسعة وعشرين يوما ونصف لكل شهر عربي, وبطبيعة الحال فإن الشهر العربي بعضه يكون ثلاثين يوما وبعضه يكون تسعة وعشرين يوما, فإذن إذا كان المبدأ الهلال أقل من تسعة وعشرين يوما ونصف يطرح ذلك النصف وإذا كان أكثر من تسعة وعشرين يوما ونصف يضاف إليه نصف يوم فيكون الشهر تاما, وفي تلك الحالة التي تنقص فيها نصف اليوم يكون الشهر ناقصاً, طبعاً باعتبار أن علماء التقويم يريدون أن يضعوا مبدأ الشهور لسنة كاملة ولا يعينون كل شهر بمفرده, وهناك أيضاً شهر ثالث يسمى الشهر الواقعي, والشهر الواقعي يعتمد في تعيينه على لحظة تولد الهلال، ويتولد الهلال بمجرد مفارقته لمركز شعاع الشمس، فإذا انحرف عن مركز شعاع الشمس إلى جهة الغرب يعتبر الشهر الواقعي قد دخل, والشهر الواقعي قد يسبق الشهر الشرعي بيوم وقد يكون معه في نفس اليوم, والاعتماد في تعيين العبادات من الصوم والإفطار والحج والخمس والزكاة والعادة الشهرية للنساء وغيرها إنما هو الشهر الشرعي, ولكن كيف يثبت الشهر الشرعي؟ هذا السؤال هو موضوع هذه الكلمة, ولا أقول هذا البحث لأننا لسنا في موضوع بحث وإنما في موضوع أو في مجال كلمة.

أحياناً يكون الهلال نيراً والسماء صافية بحيث أن كل من التفت إليه ورفع رأسه إلى السماء وكانت عينه سليمة يرى, وتكون الرؤية حينئذ رؤية عامة وهذا ما يسمى عند الفقهاء بالرؤية العامة, وفي هذه الحالة لا يثبت الهلال إلا بوجود الشياع بين المشاهدين في تلك البلد, ويختلف الفقهاء في القدر المحقق للشياع؛ فمنهم من يقول إنه لا بد أن يدعي الرؤية في مثل تلك الحالة عدد لا يقل عن الخمسين أو عن الأربعين, فلو كانت السماء صافية خالية من جميع العلل, ليس فيها شعاع ولا غبرة ولا حمرة ولا دخان ولا ضباب ولا غيم ولا غير ذلك من سائر العلل السماوية, وكان الهلال نيراً ومع ذلك لا يدعيه إلا أفراد قليلون فإنه حينئذ يحكم باشتباههم؛ لأنه إذا كانت السماء بهذه الكيفية فيقتضي أن كل سليم البصر ملتفت إلى الهلال يرفع رأسه إلى جهته يراه, فإذن لا تقبل البينة في مثل هذه الحالة. هكذا ذهب كثير من الفقهاء ومنهم صاحب الحدائق رحمه الله, وقسم آخر من الفقهاء يقبلون البينة حتى في مثل هذه الحالة باعتبار أن حجية البينة مطلقة فلا تحدد ولا تقيد بخلو السماء من العلة.

وطبعاً قد يختلف العلماء لو كانت السماء بمثل هذه الحالة والهلال بمثل هذه الحالة ثم لم يحصل عدد يحقق الشياع, فلا شك أن من يكتفي بمطلق البينة يصوم من شهر رمضان أو يفطر إذا كان عيدا، أو يقف وقوفاً جدياً لو كان في الحج, والقسم الآخر من الفقهاء أو العلماء سواء كان عن اجتهاد أو تقليد يتبع من لا يقبل بالبينة, وفي مثل هذه الحالة لا يتمكن من الإفطار إذا كان فطراً أو من تعيين ذلك اليوم من شهر رمضان لو كان صوماً, فلا بد إذن أن يقع الاختلاف.

وكذلك الذين يقولون لا يكتفى إلا بالشياع أيضاً يختلفون في القدر المطلوب في تحقق الشياع هل هو عدد معين كأربعين أو خمسين أو لا ينحصر في عدد معين, بل كل عدد أوجب اطمئناناً نفسياً أو أوجب علماً يعني هل يشترط أنه يوجب العلم أو يوجد الاطمئنان موضع خلاف, فقسم يقول يكفي أي عدد يوجد اطمئناناً في النفس, وعندئذ لو وجدت تسعة شهود أو عشرة شهود ففي مثل هذه الحالة بعض العلماء يثبت عنده دخول شهر رمضان مثلاً, أو دخول شوال, وقسم آخر ممن يشترط أن العدد لابد أن يكون مفيداً للعلم وحينئذ فإن تسعة أو عشرة من بلد يسكنها خمسمائة أو ألف شخص لا تحقق له علماً فعندئذ قد لا يفطر, أو قد لا يصومونه من رمضان, ويكون ذلك أيضاً موردا من موارد الاختلاف.

أما إذا كان في السماء علة, والعلل تختلف, الغيم علة مانعة من الرؤية والضباب الكثيف علة مانعة من الرؤية، والدخان الشديد علة مانعة من الرؤية، لكن الغبار المنتشر في الجو في ظاهر الأمر وإن كان علة لكنه ليس علة مانعة من الرؤية في نظر قوم, وكذلك لو كان في الأفق احمرار زائد  فعند بعض العلماء أنه ليس علة مانعة من الرؤية, فهل تختص حجية البينة أي الشهادة في بعض العلل دون بعض أو في كل مورد توجد فيه العلة تقبل فيها البينة؟ هذا أيضاً مورد خلاف. فلو لم يكن في السماء غيم ولا ضباب كثيف ولا دخان كثيف ولكن يوجد في السماء احمرار زائد وجاءت بينة وادعت الرؤية, فبعض العلماء يقول في مثل هذه الحالة لا أقبل البينة لأنه ليس في السماء علة تمنع من الرؤية, وقسم آخر يقول: لا, مع وجود البينة التامة الشرعية فأنا أقبلها وأبني عليها, وأنه لا فرق؛ لأن العبرة إنما هو عجز العين عن الرؤية سواء كان بوجود الحاجب أو لأمر مفرق للبصر كالشعاع الكثير المتسبب عن انتشار الرطوبة الزائدة في الجو أو الغبار الكثير في الجو أو الحمرة الشديدة أو غير ذلك مما يضعف البصر العادي عن اختراقه, فعندئذ إذا جاء أفراد يتصفون بصفات الشاهد وتتحقق بهم البينة فأنا أبني عليها, ولا أشكال في أنه في مثل هذه الحالة سيقع اختلاف بين من يقبل البينة وبين من لا يقبل البينة.

لنفرض أن العلل اجتمعت، وأن هناك علة يتفق القوم على أنه في مثلها تقبل البينة كالغيم مثلاً، ولكن هل تقبل البينة من داخل البلد أو لا تقبل البينة إذا كانت من داخل البلد؟ هذا موضع خلاف عند العلماء. فقسم من العلماء كصاحب الحدائق رضوان الله عليه يقول: في مثل هذه الحالة يلزم أن تكون البينة من خارج البلد لا من داخل البلد؛ لأنه إذا كانت في السماء فرجة يمكن رؤية الهلال من خلالها, فلا يعقل أن تكون مقتصرة على هذين الشخصين أو الثلاثة، بل كل أهل البلد إذا نظروا إلى السماء وكانت هناك فرجة تواجه الهلال فكل سليم البصر منهم سيرى الهلال, وعندئذ لو كانت البينة من داخل البلد لا يمكن البناء عليها, وأما لو جاءت البينة من خارج البلد فتقبل لأنه يحتمل وجود الفرجة في ذلك الموضع, ولا توجد الفرجة في داخل البلد؛ كما لو كانا في بحر فرأياه أو في صحراء فرأياه ولم يره أهل البلد فهذا صحيح، وتقبل البينة. قسم آخر يقول لا, نحن نقبل البينة سواء كانت من داخل البلد أو من خارج البلد, وبطبيعة الحال ففي مثل هذا المورد لا بد أن الشخصين سيختلفان في ثبوت الهلال وعدم ثبوته.

نضيق الموضوع فنقول لو أن السماء معلولة بعلة يتفق فيها على قبول البينة كالغيم, وأن الشاهدين أو الشهود يدعون الرؤية في خارج البلد كالبحر أو الصحراء أو كانوا في سفر فقدموا, يأتي هنا دور تقييم العدالة.

وللعلماء رضوان الله عليهم مذاهب متباينة في العدالة بين مشدد وبين مسهل, فالذي يشترط شروطاً مشددة في عدالة الشاهد قد لا تستقيم عنده البينة, بينما الذي يكتفي بحسن الظاهر مطلقاًُ قد تستقيم عنده البينة، فعندئذ تستقيم البينة عند زيد ولا تستقيم البينة عند عمرو وهذا أيضا يسبب الاختلاف في دخول الشهر وعدم دخوله.

وكذلك لو أن الهلال أو دخول الشهر لم يثبت عن طريق الرؤية العامة أو الشياع أو البينة وإنما حكم به أحد حكام الشرع فقال القاضي أو المرجع أو غيره حكمت بأن غداً أول شهر رمضان أو حكمت بأن غداً هو أول شوال أو حكمت بأن غداً هو اليوم التاسع من ذي الحجة أو هو اليوم الأول من ذي الحجة ففي هذه الحالة هل ينفذ حكم هذا الحاكم على سائر المكلفين أو لا ينفذ حكمه على المكلفين؟

لا إشكال أن الحاكم الشرعي في الأحكام الشرعية يسري حكمه على كل المكلفين، وأن من رد عليه رد على الله وعلى رسوله وعلى الأئمة عليهم السلام, هذه هي القاعدة العامة في فقه الإمامية, ولكن هل أن مجال نفوذ حكم الحاكم الشرعي هو الأحكام الشرعية أو تشمل موضوعات الأحكام الشرعية أيضاً؟ هذا موضع خلاف, ولا إشكال أن الحاكم الشرعي لو كان معصوماً كنبي أو إمام مفترض الطاعة فحكمه يجري على المكلفين في جميع الأشياء، هذا لا خلاف فيه؛ لأن النبي قال الله سبحانه وتعالى عنه: ]النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ[[1]. فالنبي صلى الله عليه وآله يستطيع أن يقول أخرجت هذا البيت من ملك فلان وأدخلته في ملك فلان وينتهي الأمر، ولا حق له في الاعتراض. والنبي صلى الله عليه وآله يستطيع أن يقول طلقت زوجة فلان منه وأنكحتها فلاناً, ولا يستطيع من طلقت زوجته أن يتكلم، ولا يستطيع من أنكح تلك الزوجة أن يرفض, ]النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ[, والنبي يستطيع إجراء  الصلح على أي جزء من أجزاء أرض المسلمين, والنبي يستطيع إعلان الحرب على أي قوم أراد, كل هذا داخل تحت سلطة النبي صلى الله عليه وآله, وما كان لمحمد صلى الله عليه وآله فهو لعلي بدليل حديث يوم الغدير حيث قال فيه النبي صلى الله عليه وآله: "ألست أولى بكم من أنفسكم؟", مشيراً إلى تلك الولاية التي جعلت له بموجب الآية, فلما أجابوا بلى يا رسول الله, قال: "فمن كنت مولاه فعلي مولاه".

فإذاً جعل هذه الولاية المجعولة له من الله في التصرف في كل الموجودات الكونية, وكل ما يعود إلى بني الإنسان لعلي عليه السلام, وثبتت له, وما كان لعلي عليه السلام فهو للمعصومين من ولده الأئمة المفترضة طاعتهم, هذا لا إشكال فيه, لكن بقية العلماء بما لهم من ولاية ليسوا كالنبي وكالأئمة المعصومين, فلا يستطيع أي حاكم شرعي ولا أي مرجع أن يقول أخرجت بيت فلان من ملكه وأعطيته فلانا, ولا يتمكن ولا يستطيع أي حاكم شرعي أن يقول طلقت زوجة فلان منه وزوجتها فلانا, لا يتمكن, إذاً هل له أن يحكم في الموضوعات؟ أو ليس له أن يحكم في الموضوعات؟ مسألة موضع خلاف شديد منذ قديم الزمان, فبعض الفقهاء يرى أن للحاكم الشرعي أن يحكم في الموضوعات, ومن ضمن الموضوعات التي تتعلق بها أحكام شرعية تبدل الشهور، ودخول شهر وانتهاء شهر, فيكون من حقه أن يقول حكمت بأن غداً أول شوال, أو بأن غداً أول شهر رمضان, أو غير ذلك,  وهذا القسم من الفقهاء يعتقدون بأن الحاكم الشرعي إذا حكم بذلك وجب على كافة المكلفين تنفيذ هذا الحكم والإفطار أو الصوم أو غير ذلك, وقسم آخر من الفقهاء يقول بأن الحاكم الشرعي لم يكن منصوباً من قبل الأئمة لمثل هذه الغايات, فصلاحيته لا تتسع للحكم في الموضوعات, فلا يستطيع أن يقول حكمت بأن غداً أول شوال, أو بأن غداً أول شهر رمضان, ولو قال ذلك كان قوله لاغياً وخروجاً على دائرة اختصاصه, فلا يكون ملزماً لأحد من المكلفين, وطبعاً لكل فريق في هذه القضية أدلته ولكل فريق مبناه.

ولا شك أنه في حالة ثبوت الهلال بالحكم لا إشكال أنه سيقع الاختلاف, فمن يرى أن حكم الفقيه أو الحاكم الشرعي سواء كان مرجعاً أو قاضياً أو غير ذلك نافذاً فيلزمه تنفيذ ذلك الحكم, ومن يرى بأن الحاكم الشرعي لا يدخل الحكم في الموضوعات في مجال اختصاصه يرى أن نطق الفقيه أو نطق القاضي أو نطق المرجع بهذا الحكم لاغٍ لأنه خروج على مورد اختصاصه, هذا من موارد الاختلاف.

فإذاً الاختلاف بين العلماء في قضية الأهلة ليس بسبب الحزازات الشخصية, أو النظرات الذاتية, أو التعصب, وإنما بسبب اختلاف المقاييس الشرعية التي يبني عليها كل فريق أو كل عالم من العلماء في إثباته للهلال أو عدم إثباته للهلال في ذلك الموضع. فما هو واجب الإنسان المكلف؟

هناك أيضاً مسألة من مسائل الاختلاف أو من أسباب الاختلاف لا بأس أن نشير إليها, وهي أن العلماء يختلفون في أنه هل أن كل بلد وكل قطر له هلال خاص أو للعالم كله هلال واحد؟

بعض العلماء يقول: كل أهل قطر لهم أفق شمسي معين, وهذا الأفق الشمسي المعين يفرض رؤية للهلال معينة, وعندئذ لا بد أن يكون الهلال قد وجد في أفق تلك البلد حتى يكون قد تبدل الشهر في تلك البلد, واختلاف أفق عن أفق يقدره الفلكيون بالاختلاف ساعة في الشروق أو الغروب, لكن الفقهاء لم يعينوا مقدار تباين الآفاق, بل قالوا إذا تباينت الآفاق, فإذا بنينا على تبدل الأفق من الناحية الفلكية تهون المسألة, لأن الأفق الواحد إذا كان يقتضي التغير بساعة في الشروق و الغروب فمعناه من هنا إلى الحجاز يبقى أفق واحد لأنه لا يوجد ساعة كاملة بيننا مثلاً وبين مكة بل من هنا إلى ما قبل خراسان بقليل يبقى أفق واحد لأنه لا يوجد ساعة واحدة تسبق في الشروق أو تسبق في الغروب، لكن هل أن الرؤية في الهلال هكذا؟ هذا مشكل, لأن الهلال مكوثه في الليل قليل في أول ليلة, فالبلاد الشرقية التي تغيب فيها الشمس قبل البلاد الغربية ولو بدقائق معدودة كعشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة أو أكثر من ذلك حتى لو لم تصل الساعة قد لا تتمكن من رؤية الهلال, بينما تتمكن البلاد الغربية التي يتأخر فيها الغروب أن ترى الهلال,إذا كان تولد الهلال بعد زوال الشمس, فإذا تولد بعد زوال الشمس مثلا ًوكانت الأيام أيام صيف فإنه تكون هناك مدة كافية من زوال الشمس إلى الغروب يتمكن فيها الهلال من الانفلات من أسر الأشعة الشمسية بحيث يكون فوق الشمس بخمس وثلاثين درجة إلى أربعين درجة فتكون الرؤية ممكنة, وإن كانت متعسرة في بعض الأحيان مثلا,ً ولكن يكون الإمكان العقلي والإمكان العلمي متوافرا، فيرى الهلال، بينما إذا كانت الشمس تغيب قبل هذه اللحظة لا يمكن رؤية الهلال عند أهل هذه البلد, لماذا؟ لأن الهلال لم يفلت بعد من دائرة الأشعة الشمسية بدرجات كافية تكون معها الرؤية بالعين ممكنة. فطبعاً هذا بالنسبة إلى الذين يبنون على الآفاق.

والقسم الآخر من العلماء يقول لا, إذا ثبت في بلاد من بلاد المسلمين برؤية عامة أو بينة عادلة يتفق فيها الإنسان مع من يعدل هناك ويكون مذهب من أثبت الهلال في تلك البلد في العدالة مطابقاً لمذهب هذا العالم الثاني في هذا البلد في العدالة فعندئذ  يبني على إثبات ذلك العالم لأنه إذا  قلنا بأنه هلال واحد لكل أهل الأرض, فيكفي هلال واحد لكل أهل الأرض, وهذه أيضاً من الأمور التي تسبب الاختلاف بين العلماء.

ومن الأمور التي تسبب الاختلاف بين العلماء أيضاً الرؤية بالآلة, كالمقربات, فبعض العلماء يشترط أن تكون الرؤية بالعين المجردة, فلو كان على العين آلة كنظارة أو مقراب أو غير ذلك من الآلات الموصلة للنظر إلى مواضع بعيدة ليس حجة, لأنها لم تكن بالعين المجردة, وقسم آخر من العلماء يقول لا, لا مانع لأن الحديث الشريف "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته", جعل الرؤية هي المبدأ بحيث يكون الاستناد في النظر إلى العين؛ فإذا أمكن أن يساعدها مساعد في الرؤية كمقراب أو غير ذلك فإن ذلك لا يمنع؛ لأن الاستناد لا يزال إلى الرؤية, نعم لو كانت الآلة في تعيين الهلال لا تعتمد على العين كما يسمى في الوقت الحاضر بالرادار أو أمثال ذلك فهذا لا يمكن الاعتداد به شرعاً؛ وذلك لأنه لا يكون الاعتماد فيه على العين, بخلاف المقرب فإنه مادام الاعتماد فيه على العين فلا ينافي قوله صلى  الله عليه وآله "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته", فعندئذ هذا الفريق إذا جاء, إذا كان أحد شاهدي البينة أو كلا شاهدي البينة قد رأى الهلال بالمقرب فإنه يفطر أو ينوي الصوم من رمضان بينما ذلك العالم الآخر الذي يقول لابد من العين المجردة لا يفطر, وإذا كان صوماً لا يصوم من رمضان.

فالاختلافات بين العلماء إذن ليست بسبب التعصبات  الشخصية ولا الحزازت, ولا حب الذات ولا حب السمعة أو الظهور، وهم أجل وأرفع وأكرم من أن تجرهم هذه الأمور إلى الاختلاف في أحكام الله, والاختلاف في موضوعات تتعلق بأحكام الله, وإنما سبب اختلافهم هو سبب المباني الشرعية التي يبني عليها كل منهم موقفه في هذه المسألة، فلا ينبغي التشويه، على أن هذه المسألة في حقيقتها لا تضر بوحدة الأمة، واجب الانسان المكلف أن ينظر؛ فإن كان هو يعتمد على أحد العلماء دون بقية العلماء فيتمكن من اتباعه في إثبات الهلال أو في نفيه, ولكن ليس له أن ينبت ببنت شفة  سوء ضد من خالف معتمده من العلماء؛ لأن ذلك الذي خالف لم يخالف لهوى في نفسه، ولو فرضنا أنه يعتمد على أكثر من واحد، فاختلف هذان اللذان يعتمد عليهما فأفطر أحدهما وبقي الآخر صائماً فماذا يفعل المكلف؟، طبعاً ينظر، فالذي يقول عندي بينة يُقدم قوله على الذي يقول لم تثبت عندي البينة؛ لأن هذا يدعي ثبوت وجود, وذاك كل  الذي هناك يبقى في موقف سلبي، لا يدعي أن لديه شيئاً مضاداً لكلام من أثبت الهلال، فإذا كان يعتمد على كل منهما وأحدهما ثبت لديه الهلال، يلزمه اتباعه دون من لم يثبت عنده الهلال في هذه الحالة؛ لأن من لم يثبت عنده الهلال بقي في موضع سلبي، وليس في موضع إيجابي مناقض لذلك الموقف حتى يقال إنه في حيرة، ولكن على أي حال لا ينبغي مد اللسان ولا يجوز في مثل هذه الأحوال.

ولو اتفق العالمان اللذان يختلفان في المباني، وكان الهلال يثبت على مبنىً دون مبنى، لكان ينبغي أن ننتقدهما، لا فيما إذا وقف كل منهما موقفه الشرعي الذي فرضه الله عليه من المباني أن ننتقدهما، بل نقول: كل منهما قد أحسن, وكل منهما قد بذل جهده, وأن هذه المسألة والاختلاف فيها لا يستدعي تفرقة لأنها ليست من أصول الدين في شيئ، وإنما هي من فروع الدين، وكما يختلف العلماء في المسح على الرجلين هل يكون معية أو ترتيباً، ومع ذلك لا نمد ألسننا على من يقول يجب المسح معيةً ولا نمد ألسنتنا على من يقول يجب المسح بالترتيب ونصلي خلف كلٍ منهما، فكذلك في هذه المسألة لأنهما في الحقيقة من باب واحد، ولكن حيث إن الأهلة تتعلق بمواسم مهمة عند المسلمين من أعيادٍ أو صوم أو حج، يتخذها بعض الناس ومن في قلبه حسيكة أو حقد على العلماء للتشويه عليهم بالاختلاف والتضارب والتطاحن وغير ذلك، وينبغي إذاً التنبه إلى مثل هذا وتفهيم الجاهل, وإسكات المعاند.

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

 

سؤال: لماذا لا نعتمد على الحسابات الفلكية؟

جواب: لأنها لا تعتمد على العين. فالبينات يمكن أن يكونوا كلهم مشتبهين, لكن واجبنا العمل بها، ويختلف العلماء في البينة، هل هي طريق لإثبات الموضوع وحجيتها من باب الأمارات المجعولة شرعاً؟ أو لأنها طريق من طرق العلم فحجيتها إلى ما تحدثه في نفس سامع البينة؟

أكثر الفقهاء  على أن البينة من باب الأمارات، وليست من باب الطريقية للعلم، ولذلك لو جاء الشاهدان العادلان، فشهدا عند القاضي على أن زيداً مطلوب بمئة دينار لعمرو، فإن القاضي يحكم على زيد بدفع المئة الدينار إلى عمرو، بغض النظر عن تأثره النفسي بكلام البينة، نعم لو كانت هناك بعض القرائن التي قد تثير شكوكاً حول البينة، ولكن هذه البينة ثابتة عدالتها، في هذه الحالة استظهاراً للعدل وللحق يجوز للقاضي أن يأمر المدعي بالحلف مع بينته، لقول علي عليه السلام ثم رد اليمين على المدعي مع بينته استظهاراً للحق والعدل.

فإذن البينة في حقيقتها لا يُنظر إليها هل أنها أثارت في نفس الحاكم الشرعي اطمئناناً  أو علماً أو مجرد شك، وذلك لأن الناس يتفاوتون فمنهم سريع الجزم سريع القطع ومنهم كثير الشك كثير الوسوسة، ولو كانت البينة ليست إلا بما تُحدثه من أثر في نفس الحاكم، لتعطلت مصالح الناس، ولتبدلت الأحكام بين قاضٍ وآخر، فمن أجل ذلك كانت البينة هذا شأنها، بينما من يقول إن العبرة بالشياع هو حصول الاطمئنان فيكون للشياع حكم  خاص لا علاقة له بالبينة، لأنه عندئذ لا عبرة بعدد الشهود ولا بعدالتهم ولا بوثاقتهم ولا بتباين بلدانهم، وإنما بالأثر الذي يُحدثه الشياع في نفس الحاكم.

سؤال:..........

جواب: إذا كان القاضي يعلم بالواقعة فهو لا يجعل فرصة للمدعي بإحضار بينة ولا يقول له أحضر بينتك، فلو أحضره بغير طلب فإن الشهادة تكون تبرعية وهي باطلة.

 

سؤال:.............

جواب: وهذا محل اتفاق بين العلماء, لو تبرع إنسان بالشهادة دون أن يطلبه صاحب الحق, فإن القاضي يرد شهادته ويعتبرها باطلة.

 

سؤال:..............

جواب: لأنه في هذه الحالة القاضي لا يطلب البينة ولا يقول للمدعي أحضر بينتك, وإنما يدور أمره بين اثنين, إما أن يحكم بعلمه, وإما إذا كان يخاف أن يسبب نيلاً من منصب القضاء أن يعتزل القضية ويتركها إلى قاض آخر لا يعلم بالواقعة, ويتمكن عندئذ المدعي من الاستفادة من شهادة هذا الشاهد بحيث يطلبه للشهادة.

 

سؤال:..............

جواب: هنا لا اعتبار بالظن، ولا اعتبار بالعلم وإنما حجية البينة في حد ذاتها, هي حجة أفادت ظناً أم لم تفد, فأحياناً لا يستفيد الحاكم حتى ظنا من الشهادة, ولكن لا يستطيع أن يقول إنني لا أحكم  بالبينة لأنني لم استفد حتى الظن.

 

سؤال:..........

جواب: فالأمر في البينة ليس باعتبار ما تفيده من ظن أو شك أو جزم, لا.

وصلى اللهم على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

 

 

*  محاضرة للشيخ سليمان المدني في 2 شهر رمضان 1411هـ بجدحفص

[1]  الأحزاب: من الآية6

مؤسسة إسلامية تُعنى بحفظ تراث العلامة الشيخ سليمان المدني (قده) ونشره، وحفظ المبادئ والقيم والثوابت التي ينتمي إليها سماحته، والتي دافع عنها طول حياته.