الصبر على المبدأ والرفق في الأمور عند النبي صلى الله عليه وآله
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وآله الطيبين الطاهرين.
والسلام على هذه الوجوه المؤمنة التي حضرت شوقاً وحباً لرسول الله صلى الله عليه وآله, واحتفالاً بمولده, وإقامةً للشعائر الدينية, جميعا ً ورحمة الله وبركاته.
وأشكر أولاً فضيلة العلامة الشيخ عبد النبي الحداد على هذه التوجيهات الذي تفضل بها, ولا إشكال أن أعداء الإسلام وأعداء محمد صلى الله عليه وآله كانوا وما برحوا وسيظلون يعملون على تشويه الحقائق, وعلى تشويه شخصية رسول الله صلى الله عليه وآله منذ الأيام السحيقة وحتى يومنا هذا, وآخر تقليعةٍ في هذا المجال على ما أتذكر تقليعة الكنيسة الأمريكية المعاصرة, أو اتحاد الكنائس الأمريكية المعاصرة, حيث لم تجد مغمزاً تستطيع أن تغمز به الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله, ولعلمهم أن المسلمين ما كانوا ليتخلوا عن محمد صلى الله عليه وآله, عمدوا إلى طريقٍ مُعْوج, وهو أن يقولوا إن محمداً صلى الله عليه وآله ليس إلا نصراني ابن نصراني, وأن الإسلام ما هو إلا فرعٌ من فروع النصرانية, وأنا قرأت أنهم ألفوا في هذا الصدد كتاباً من أربعة عشر مجلداً, أصغر مجلد فيه ألف صفحة, والغريب أن هذه اللجنة التي ألّفَّت هذا الكتاب ما تركت كتاباً عند المسلمين من كتب التأريخ والحديث والتفسير والسيرة إلا وحاولت الاستفادة منه, وأحمد الله أنه ليس في مصادر هذا الكتاب كتاب شيعيٌ واحد, لا أقول إن كتب الشيعة وكل أحاديثها وكل ما دوّن في السيرة عندهم هو صحيح مائة في المائة, لا أقول ذلك, ولكنهم لم يتمكنوا من الاستفادة من كتب الشيعة بشيء.
وعلى ذكر شقِّ الصدر ورواية شقِّ الصدر الموجودة في بعض كتب الحديث, وفي مولد البكري الذي يُتَداول في الأعراس والبيوت, أقول إنها رواية مسيحية, من الروايات التي دسها أهل الكتاب بين المسلمين, لأنها تمثل عمليةً يسميها المسيحيون [التعميد], فعندما يولد الطفل المسيحي لا يعتبر مسيحياً متّبعاً لعيسى عليه السلام حتى يُؤخذ إلى الكنيسة, وهناك يأخذه الكاهن أو القسيس وينقِّط في فمه بعض قطرات من شيء حلو مذاب بالعسل مثلاً, ويقول له: اشرب من دم المسيح لتكون طاهراً, ويُغسل بماء ويقال إنه غُسِلَ قلبه. ورواية شقِّ الصدر ما هي إلا طريقة للتعميد, وجيء بها مضخمة, وأن الملائكة فعلتها بمحمد صلى الله عليه وآله.
الرسول صلى الله عليه وآله لا يعرفه إلا الله، ولا يعرفه إلا علي عليه السلام, شخصيته غير معروفة لغير الله ولغير علي بن أبي طالب عليه السلام, والرسول صلى الله عليه وآله خُلِقَ قبل الكون كله, والسمواتُ, الأرضون, الملائكة, الجن, الإنس, من لا نعلم من خلق الله, كلهم خُلقو إكراماً وإجلالاً لمحمد صلى الله عليه وآله, وحتى في كتب بعض المسيحية التي لم تصل يد التحريف إلى بعض آياتها "إن الله خلقه قبل خلق الخلق بعشرين ألف عام" هذا ما في إنجيل [برنابا] ذاته, على أي حال نحن لا نحدد بالزمان, فليس هناك زمان قبل خلق الشمس, لأننا نقيس الزمان بالشمس, وبسير الشمس, ونقيس الزمان بسير القمر, وقبل خلق الشمس والقمر لا نستطيع أن نقدر الزمان, ومحمد صلى الله عليه وآله خلق قبل ذلك, فنحن لا نقول بيوم, أو بساعة, أو بعشرين ألف عام, أوبمائة ألف عام, أوبمليون عام, لا قياس عندنا, المهم أنه خلق قبل الكون, ومحمد صلى الله عليه وآله من أجله خُلق الكون, ومحمد صلى الله عليه وآله رحمة لكل من في الوجود, ]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[[1], فإذن شخصية الرسول صلى الله عليه وآله لا نستطيع أن نتكلم عنها, نعم نحن كمسلمين نؤمن بمحمد صلى الله عليه وآله, ونتبعه ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لاتباعه, وأن يهدينا للاستفادة منه, وعلينا أن ندرس سيرته لنستفيد من أخلاقه, لنستفيد من طرائقه وأساليبه في معالجة الأمور.
ومن الأهداف التي يجب أن تضطلع بها هذه المناسبات, أن يقوم الخطباء والشعراء, وأن يتكلموا عن بعض وصايا النبي صلى الله عليه وآله, وأن يشرحوا سيرته وأساليبه في معالجة الأمور, ولا يتسِّع المجال للحديث عن جوانب كثيرة، أو الإلمام حتى بجانب واحد على نحو التفصيل, ولكنني أقتصر في هذا الموقف على ذكر جانبين أو خصلتين من خصال الخير التي يتحلى بهما محمد صلى الله عليه وآله, واللتين ينبغي أن يتحلى بهما كل مؤمن بمحمد صلى الله عليه وآله, متبع له, هاتان الخصلتان هما الصبر والرفق.
الصبر على المبدأ, والصبر على المبدأ يستدعي الصبر على تحمل المكروه من أجل الثبات على المبدأ, ومحمد صلى الله عليه وآله معلوم صبره في قومه من أجل المبدأ, كم أوذي هذا الرسول في مكة, وكم أوذي في المدينة المنورة, وكم أوذي وهو حي, وكم يؤذى بعد وفاته إلى اليوم, فيما يُتقول عليه وما يُنسب إليه وهو منه براء, في مكة جاء قوَمه بخير الدنيا والآخرة, جاءهم بما لم يأت به فتىً مثله إلى قومه, فبأي شيء قابلوه؟ قابلوه بالتكذيب, بالازدراء, بالمحاربة, بالمقاطعة, كانوا ينبزونه بالألقاب, فهو الساحر, وهو الكدٌاب, وهو المفرِّق, وهو العميل للأجانب, الذي تملى عليه أساطير الأولين فيكتتبها ليفرق بين بني إبراهيم وبين بني إسماعيل, يسير في مكة فيقف الأطفال له على الطريق يرمونه بالحجارة بأمر كبراء مكة وسادتها, ويذهب للصلاة عند الكعبة فيرمى عليه روث الحيوانات والدم وغير ذلك, ويؤمن به الإنسان فيقاطع ويؤذى, وربما طرح أرضاً وجلد حتى الموت, أو يترك كأنه الميت من شدة ما أصابه, وكان باستطاعة الرسول صلى الله عليه وآله أن ينهي ذلك بدعوة واحدة, ولن ينزل مقداره عند الله لو دعا عليهم, ولن يقل فضله أمام الله لو دعا عليهم, ومع ذلك صبر على كل ذلك الأذى, وأتى إلى المدينة, فهل تظنُّون أنه قد ذهب إلى مجتمع جديد وكوَّن دولةً عاش فيها مستريحا؟ عاش منعٌما؟ كلا. صبر على ما هو أشد وأمض, قومٌ يعلنون الإيمان بدعوته, ويحضرون الصلاة خلفه, ويحملون الراية للحرب معه, وهم يتربصون به الدوائر, يخرج الواحد منهم فإذا ما ابتدأت الحرب رجع بمن معه, حتى ينهزم المؤمنون في الحرب, هذا ما فعله عبد الله بن أُبَي يوم بدر, خرج مع الرسول صلى الله عليه وآله ثم رجع بنصف الجيش, وقال إنه بعد ذلك سيُخرج محمداً من المدينة, لأن محمداً سينهزم أمام قريش ويرجع ذليلاً، وأنه هو العزيز بالمدينة وسوف يُبعده, هذا واحدٌ من المنافقين كشف وجهه, هناك العشرات بل المئات من أمثال عبد الله بن سلول لم يكشفوا وجوههم, وعاشوا حتى آخر حياتهم صحابةً مبجَّلين, من يدرينا؟ ليس عندنا مقياسٌ نعرف به, يقول الله سبحانه وتعالى: ]وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ[[2]، وقال أيضاً: ]وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ[[3], فإذاً ما يدرينا لعل المئات أو أكثر من المئات ممن نبجِّلهم اليوم ونقدسهم بعنوان الصحابة هم في الحقيقة ليسوا أقل ضررا وليسوا أقل حقدا على رسول الله صلى الله عليه وآله من عبد الله بن أبي سلول, ومع ذلك صبر على كل هذا الأذى.
هذا من حيث الصبر, ومن حيث الرفق في أخذ الأمور, معلومٌ عنه صلى الله عليه وآله تعامله بالرفق واللين مع من كان يؤذيه, ومع من كان يمدُّ لسانه عليه, ومع من كان ينبزه بكل لقب شيْن, وحتى مع اليهود الذين يتعمدون أذيته، كان يعاملهم بالحسنى، ويأخذهم بالرفق, ويظهر لين سياسته ورفقه أعظم ما يظهر في يوم الحديبية, فمن غيره يُطلب منه أن يحذف لقباً أعطاه الله له فيستجيب؟ احتج مندوب قريش وقال: لا تكتب هذا ما اتفق عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وآله, لأننا لو آمنا بأنك رسول الله ما وقفنا منك هذا الموقف, ولكن قل هذا ما اتفق عليه محمد بن عبد الله, ولم يكن الرسول صلى الله عليه وآله يومئذ ضعيفاً, ولم تكن قوة قريشٍ يومئذ بتلك القوة التي تُرهب الرسول أو تخيفه بعد كل ما مرَّ معها من حروبٍ انهزمت فيها, من بدر وأحد وغيرها.
ومع ذلك استجاب لأنه يرى أن أخذ الأمور بالرفق في شيء سيتحقق إن عاجلا أو آجلا, وذلك أولى من الأخذ بالقوة وإسالة الدم ولو بمقدار قطرةٍ واحدةٍ, وأمر علياً عليه السلام أن يشطب لفظة رسول الله, وأن يكتب هذا ما اتفق عليه محمد بن عبدالله وفلان بن فلان.
بطبيعة الحال بعض الناس هناك تجرأوا على الرسول صلى الله عليه وآله تجرءاً ماكان يليق بأحدٍ يؤمن بالله ورسوله أن يتجرأ عليه, ولكنه أصرَّ على الأخذ بسياسة الرفق واللين وهو الذي يقول لعائشة: "يا عائشة, إن الله يعطي بالرفق ما لا يعطي بالشدة", أي أن اتِّباع أساليب الرفق وأساليب اللين هو أولى من اتباع أساليب الشدة في الأمور السياسية والاجتماعية.
هاتان الخصلتان من أهم الخصال المفيدة, وكل خصال الرسول صلى الله عليه وآله مفيدة، ينبغي على كل مسلم أن يتحلى بهما, أن يصبر على ما يصيبه من الأذى في هذه الدنيا, خاصة من أجل الثَّبات على المبدأ, وخاصةً في الدفاع عن المبدأ, وخاصةً في مقام الالتزام بالمبدأ. وأن يتعامل مع من يختلف معه سواءً كان يتفق معه في بعض الأمور, أو يخالفه في جميع الأمور، بالرفق والملاينة, فإنه لا يوجد شيءٌ أوصل بالأمور من الرفق, فعلينا إذن أن نتحلى بهاتين الصفتين, وأن نشكر الله سبحانه وتعالى الذي منَّ علينا بمحمدٍ صلى الله عليه وآله رسولاً ونبياً وقائداً وهادياً.
ونسأله سبحانه أن يوفقنا للثبات على الإيمان به, والدعوة إلى سبيله, والاستنارة بهدي رسوله صلى الله عليه وآله, إنه كريم مجيد, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* كلمة ألقاها الشيخ سليمان المدني في الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وآله في 21 ربيع الأول 1422هـ المصادف 13/6/2001 بمأتم قائم آل محمد بإسكان جدحفص
[1] الانبياء:107
[2] التوبة: من الآية101
[3] محمد:30
