موقفنا من الحياة النيابية (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين, واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
أعود إلى ما كنا نتكلم فيه من الأسباب التي منعتني من السير مع العريضة التي طرحت والتي تطالب بإعادة تفعيل بعض المواد المعلقة من الدستور والمجلس الوطني وقد قلت أساسا إنه لم يطلب مني التوقيع على العريضة الثانية وهي العريضة التي أنزلت لكافة الناس, لم يطلب مني التوقيع عليها، وإضافة إلى ذلك فإن هناك أسبابا دينية ذكرت بعضها وأسبابا سياسية سأذكر بعضهاهذه الليلة هي التي منعتني من السير مع هذه العريضة.
ومن الأسباب السياسية التي منعتني من السير مع هذه العريضة هو أن الذين كتبوا العريضة لم يقوموا بدراسة إمكانية المطلب، وما معنى إمكانيته؟ تعرف السياسة عادة بأنها فن تحقيق الممكن, فهل يقصدون بقولهم [فن الممكن]، الممكن عقلا في مقابل المستحيل عقلا؟ طبعا لا، لا يقصد من لفظ الممكن في هذا المجال هو الممكن عقلا مقابل المستحيل عقلا، وإنما يقصد بالممكن أي الموضوع الذي يمكن التغلب على العقبات والعراقيل التي تقع في طريق تحقيقه بأقل خسارة ممكنة، هذا يسمى في مصطلح السياسيين بالممكن، وأي موضوع يطرح لابد أن تعرف إمكانيته في الظرف الذي يطرح فيه, وأن تدرس هذه الإمكانية، وهل أن العقبات المانعة من تحقيقه يمكن التغلب عليها في الظرف الحالي، ويمكن تذليلها في هذا الظرف؟ أو أنه لا يمكن تذليلها ولا يمكن تجاوزها إلا بتضحيات كبيرة، وخسائر كثيرة، بحيث يكون الموضوع لو تحقق لا يكون الربح والعائد منه مساويا للخسارة والتضحيات التي بذلت في سبيله.
طبعا موضوع مثل موضوع إعادة المجلس الوطني ليس من الموضوعات السهلة التي تكون العقبات في طريق تحقيقها أمرا سهلا. فلابد إذن من دراسة هذه العقبات, ومن دراسة المشاكل التي تنشأ من محاولة مس الثوابت التي تتسبب في وجود هذه العقبات. وبأي أسلوب يمكن أن يعمل, ولابد أن يحسب الحساب للنتائج التي ستنتج عن ذلك، طبعا أنا لا أعرف عن القائمين بهذه العريضة إلا أن جماعة من الإسلاميين الموثوقين اتفقوا مع جماعة من اليساريين وأصدروا العريضة, ولا شك أن الإسلاميين منهم هم موضع ثقة وموضع اعتبار ولكن اليساريين وهم الأعداء التقليديون للإسلاميين لا يمكننا أن نأمن جانبهم بحال من الأحوال, ولا نعلم ماذا يقصدون من هذا الطرح في هذه اللحظة.
إذا أردنا أن ندرس تلك الظروف نجد أن الدولة قد أعلنت عن مجلس استشاري قبل عام واحد من العريضة الثانية, وعليه فلا توجد إمكانية أن تتراجع الدولة عن مشروعها في ذلك الظرف, ويكون طرح الموضوع في ذلك الظرف كأنما هو مجابهة صريحة مع الدولة، لا توجد إمكانيةٌ وخصوصاً بعد طرح الدولة لمجلس الشورى في ذلك الوقت.
الشيء الثاني أن الظروف التي تعيشها البحرين إنْ على المستوى الشعبي أو على المستوى الرسمي غير مهيأة لطرح الفكرة دفعة واحدة بهذا الشكل؛ فلابد إذن من العمل، على التوعية الشعبية التدريجية على الحياة النيابية من جهة, ومطالبة الدولة بمزيد من الحريات من جهة ثانية, حتى يمكن أن تحصل إمكانية ذهنية عامة سواء على الصعيد الرسمي أو على الصعيد الشعبي, وألا يكون هذا الطرح بمثابة نقلة أو بمثابة قفزة إلى الموضوع؛ لأنه في هذه الحالة لن تحصل استجابة, وربما تحصل خسائر كثيرة وفادحة.
ثانيا إن قرار أي دولة في ظاهره مستقل, ولكن قد لا يكون في حقيقته مستقلا تمام الاستقلال، هذا يرجع إلى مدى قوتها وقدرتها الاقتصادية, وإلى مدى قدرتها وقوتها العسكرية, فما لم تكن الدولة لها القدرة الاقتصادية التامة التي تمكنها من اتخاذ قرارها الخاص بكل استقلال فعندئذ لا تستطيع أن تستقل في قرارها - حتى لو كان يتعلق بالشئون الداخلية - عمن هي مضطرة إلى الاستفادة منهم في المقام الاقتصادي أو المقام العسكري.
وإذا جئنا إلى البحرين وخاصة في هذه الظروف نجد أن الدولة - وليسمح لي رجال الدولة أن أقول ذلك- أنهم لا يستطيعون أن يتخطوا عقبة مجلس التعاون الخليجي بكل ما فيه من ثقل وبكل ما تحتاجه البحرين من دعم لبعض القضايا الحدودية والخارجية من بعض دول هذا المجلس, وأيضا من تأثير بعض هذه الدول على الاقتصاد في البحرين تأثيرا كبيرا؛ مما يجعل إمكانية تحقيق المطلب في الظرف الحاضر وما لم نعمل على تلافي هذه العقبة الكأداء وتنمية الاقتصاد وتهيئة سبل العيش الذي يمكننا من اتخاذ القرار بحرية أمرا ممكنا.
لذلك فإن طرح هذا المطلب من دون دراسة هذه الأمور على أقل تقدير يكون مشغلة للوقت وتضييعا للفرصة بدل المطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية للشعب، وبدل المطالبة بمزيد من الحريات للشعب, وبدل المطالبة بمزيد من المساواة للشعب. وهذه الأولويات كلها ستتعطل إذا نحن بقينا مصرين أو طرحنا هذا المطلب الذي نعلم عن وجود العقبات الكأداء الشديدة في طريق تحقيقه.
وإن تذليل هذه العقبات يحتاج إلى وقت طويل وإلى جهد كبير, وإذا لم نعمل على تذليلها فلن تذلل, وطريق تذليل هذه العقبات إنما هو العمل على توفير الظروف المعيشية الصحيحة للناس.
مثلا لو جئت إلى ظروف العمل اليوم، كثير من الناس تتكلم عن البطالة, ولكن إذا أخذنا البطالة بمعناها الضيق وهو أن هناك أناسا بدون عمل فسيكون الأمر بسيطا، كم عدد العاطلين عن العمل؟ لو قلنا من باب المبالغة أنهم يصلون إلى عشرين ألف عاطل، نستطيع أن نخرج عشرين ألفا من الأجانب ونوظف بدلهم عشرين ألفا من أهل البلد، هل تعتقدون أن المسألة العمالية في هذا الحال تنحل؟ لا تنحل، لماذا؟ لأن العامل الأجنبي العادي يقبض خمسة وأربعين دينارا, وحتى لو أردنا أن نضاعف هذا الأجر ونعطي العامل تسعين دينارا ماذا ستفعل له بالنسبة إلى غلاء المعيشة؟
فإذن العلة الحقيقية تكمن ليس فقط في مجال عدم وجود وظائف, وإنما أيضا مستوى الدخل الذي يجب أن يعدل, فعلينا أن نجعل مفهوم البطالة يشمل أيضا مستوى الدخل وليس فقط عدم توفر العمل.
طبعا العمل على هذا المستوى يذلل عقبة من هذه العقبات، فنحن إذا لم نعمل على معالجة المستوى المعيشي لا نذلل عقبة من العقبات التي تحول دون طرح هذا المطلب.
بالإضافة إلى أن هذا المطلب يعيقنا عن العمل على تحقيق الحرية الشخصية إنْ في إبداء الرأي أو في التنقل -الخروج والمجيء- فهناك حَجْر كبير و قيود كبيرة على هاتين الحريتين، فمثلا لا يستطيع الإنسان أن يبدي رأيه في الصحيفة، فلابد أن تكون هناك قنوات معترف بها, قنوات شرعية يعبر الإنسان فيها عن رأيه؛ سواء كان هذا الرأي خطأ أو صوابا. فإذا سمحنا للإنسان أن يمارس النقد ويتعود عليه فسيتعود على النقد المهذب للآخرين، يتهذب أسلوبه في انتقاد المخالفين، بالإضافة إلى أننا حللنا مشكلة كبيرة من مشاكل الحرية, وأهّلنا الناس للمعايشة [الديمقراطية] القائمة على التفاهم والتحاور في حل الخلافات والمشكلات، وهو بدوره يعوّد المسؤولين على استماع النقد بروح رياضية فيما يتعلق باختصاصه، وبذلك نكون قد أوجدنا أو ذللنا عقبة من العقبات التي تعرقل قيام الحياة النيابية؛ لأن كثيرا من المسؤولين يتصور أنه عندما تكون هناك حياة نيابية سيضيق عليهم، لا يتمكنون أن يعملوا، سيحاسبون عن كل صغيرة وكبيرة إلى غير ذلك، وهذا طبعا يجعلهم لا يوافقون عن قيام الحياة النيابية، وهذه أيضا عقبة من العقبات.
فالمطالبة بمزيد من الحرية في التعبير عن الرأي عبر القنوات الموجودة بالفعل بالإضافة إلى أنه يحل مشكلة نفسية متأزمة؛ هو بالتالي أيضا يذلل عقبة من عقبات تحقيق الحياة النيابية وهو تعويد الناس على تهذيب الأساليب النقدية وتعويد المسؤولين على سماع النقد المؤدب أيضا والإجابة عليه, سواء كان صحيحا أو كان خطأ، وأما إذا طرحنا المطلب رأسا فإنما نضيع الوقت في أمر لا نتوصل إلى حل له، ولا نستطيع أن نحقق ما يمكن تحقيقه، وكذلك حرية التنقل هذه أيضا مشكلة من المشاكل التي تحتاج إلى حل, ففي أحيان كثيرة لا يتمكن بعض المواطنين من الرجوع إلى البلاد في الوقت الذي يرغبون، أو يخرجون في الوقت الذي يريدون.
ربما كان سبب ذلك هو قانون الطوارئ الذي أعلن لظروف خاصة عام1981م فهل يمكن أن ننتظر المجلس الوطني ليرفع هذه الحالة؟ أليس هذا مضيعة للوقت في الحقيقة؟ أليس الأحسن أن نعمل ونقنع الدولة بأننا مواطنون صالحون وأنه لا داعي مطلقا لقانون الطوارئ؟ ويرتفع قانون الطوارئ ويستفيد من ذلك الجميع, ويكون أيضا في نفس الوقت تذليلا لبعض العقبات المانعة من الوصول إلى الحياة النيابية.
إذن الطرح المفاجئ بهذا الشكل لم يكن يسمح لكثير من الناس بالسير مع هذا الطريق, إضافة إلى أنه لم يستشر أحد من السياسيين في البلد، أو من الوجهاء والأعيان، أما العلماء فأنا أستطيع أن أقول عنهم إنهم لم يسمعوا بالعريضة إلا بعد أن طرحت للناس.
طبعا ما هي النتائج التي ستترتب على هذا؟ لم تدرس, ولا يعرفون عنها شيئاً، أنا لا أعرف عنها شيئاً. نحن رأينا النتائج بعد فترة طويلة من طرح العريضة, وهي كما ترون بعداً عن مفهوم الديمقراطية والحوار بين الأخوة وتفرقا في الرأي وتمزقا في الصف بالإضافة إلى الضعف الاقتصادي الذي عم البحرين عامة والشيعة خاصة, بالإضافة إلى ازدياد الشك في الشيعة بحيث إنه حتى شرف الدفاع عن وطنهم صار ليس لهم حق فيه, إلى غير ذلك من الأمور والنتائج التي ظهرت لأن هذا الشيء لم يدرس دراسة كافية, ولم تعرف الأساليب التي وضعت له.
وهناك أيضا اعتراض على طريقة طرح العريضة, ولا أريد أن أتعرض له في الوقت الحاضر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* كلمة ألقاها الشيخ سليمان المدني في ليلة الثلاثاء 23/10/1995م بجامع جدحفص
