almuhadhrat

سيرة طواغيت العراق مع العلماء

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين, واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

هذه الليلة سوف لن نتكلم في محاضرة علمية, ولكننا نريد أن نتكلم عن العلماء وطغاة بغداد.

وتبدأ قائمة الطغاة في بغداد بأبي جعفر المنصور, والمنصور معروفة أفعاله وتنكيله بالإمام الصادق صلوات الله عليه, واستدعاؤه إياه من المدينة إلى بغداد مراراً لمجرد وشاية غير محققة, أو كلمة غير مثبته, فكان يتربص به الدوائر لعله يجد مبررا ما في قتله أو سجنه أو غير ذلك, ولما لم يجد مبرراً دس إليه السم, وشرّ المنصور لم يقتصر على علماء فئة من فئات المسلمين, وإنما عمّ كل علماء المسلمين, ويكفي أن أبا حنيفة أحد أئمة المذاهب الأربعة مات مسموماً في سجن المنصور, وكان خلفاء المنصور أشدّ ظلماً وأشد جوراً وأشدّ طغياناُ وأشدّ إراقة لدماء العلماء, ويبلغ القمة فيهم في هذا العمل أو في هذا المجال حفيده الرشيد, وتاريخ الرشيد حافل بإسالة الدماء, ويكفي أن نعرف في تاريخه أنه كان يبني الاسطوانات على البشر وهم أحياء, وسوف نذكر بعض من أصابهم شرّ الرشيد من العلماء.

وأول هؤلاء الذين سأذكرهم هو هشام بن الحكم, ومعروف أن هشام بن الحكم رحمه الله كان أحد متكلمي الإسلام, وله مذهب خاص به في علم الكلام, هذا الرجل تنقل وهو شاب في مذاهب متعددة, وتغيرت عقيدته من مذهب إلى مذهب بين يوم وآخر, حتى استقرّ أخيراً على عقيدة الإمامية الاثني عشرية, وتتلمذ فترة من الزمن على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق صلوات الله وسلامه عليه, وابنه أبي إبراهيم موسى الكاظم صلوات الله وسلامه عليه, طبعا هذا الرجل ليس ممن يشتغل في السياسة حتى يعد في المعارضة التي يطاردها الرشيد, والتي لم يتورع عن البناء على أفرادها الأسطوانات وهم أحياء, وإنما كان هشام منشغلا بتحقيق مسائل علم الكلام, وتحقيق مسائله والمجادلة مع من يخالفه في الرأي أو الاعتقاد, سواء كان ممن يتفق معه في المذهب أو يختلف معه في المذهب أو الاعتقاد, فمناقضاته مع هشام بن سالم الجواليقي, وهو أيضا من متكلمي الإسلام, ومن الشيعة, لا تختلف عن مجادلاته مع غيره من أرباب الفرق وأرباب المذاهب.

إذاً ما الذي أغرى الرشيد بهذا الرجل؟

الرشيد كما تعلمون له وزير يقال إنه أسلم, كان أصله مجوسيا, اسمه خالد بن يحيى البرمكي, وخالد بن يحي كان أثيراً جداً عند الرشيد, ويكفي أنه كان عند الرشيد يدّعي بأنه لا يستغني عن هذا الرجل, وكان الرشيد أيضاً يريد من أخته العباسة أن تخفف عنه أعباء الحكم بغنائها ورقصها, وهو كان لا يستغني عن وزيره, فعقد له عليها, وقبل أن نتكلم عن طريقة هذا الرجل في خدمة الرشيد, نود أن نتكلم عن شيء في التاريخ, طبعاُ هذا الرجل ليس بعربي وإنما هو من الفرس، وكان مجوسياً يدعى أنه أسلم, وصار وزيرا ومقرباً جدا من الرشيد, بل وزيراً كبيرا من وزرائه, وكان يعبث بأموال الأمة, ويلعب بها وينفقها للشهوة تارة, ولأغراض أخرى تارة أخرى, وكان للرشيد وزير آخر من العرب, ربما كان في نظر الناس ينافس البرمكي, وهو الفضل بن الربيع, وعندما غضب الرشيد على الإمام موسى بن جعفر صلوات الله وسلامه عليه, وجلبه من الحجاز إلى العراق في بغداد, أعطاه إلى الفضل بن الربيع ليحبسه, فأفرد الفضل بن الربيع بيتاً للإمام عليه السلام وأجلسه فيه, وسمح للناس وللشيعة في بغداد أن تدخل على الإمام وأن تجالسه وتسأله وغير ذلك, واستغل خالد بن يحيى ذلك ضدّ الفضل بن الربيع, وأخبر الرشيد بأن الفضل موسع على موسى بن جعفر وقد أفرد له بيتاً، والناس تدخل له وتخرج, استدعى الرشيد الفضل وقال له: لمَ فعلت ذلك؟ فقال: لأني لا أرى على أمير المؤمنين من هذا العبد الصالح سوءًا, ولا أحتمل منه شراً, ولا أجد في نفسي, أن ألقى الله وأنا مضيق عليه, فغضب الرشيد, وأسقط الفضل بن الربيع من الوزارة, ونقل الإمام عليه السلام إلى سلطة خالد بن يحيى البرمكي, الذي وكّل عليه عبده السندي بن شاهك, وأمره أن يضيق عليه, وجعله في طامورة مظلمة, تصل إلى سبعين درجة تحت الأرض, وأخيرا أوصل سما خاصا من الرشيد إلى عبده ليقدمه للإمام في طعامه, فمات عليه الصلاة والسلام مسموما في حبس السندي بن شاهك, الذي هو مولى خالد بن يحيى البرمكي وأحد أعوانه ورجاله.

وخالد بن يحيى البرمكي له أسلوب خاص في خدمة الرشيد, فهو يحاول أن يتصيد أهل الفكر والعلماء والمتكلمين ويوقع بهم أو بمن لا يعجبه منهم عند الرشيد,  فكان يعقد ندوات علمية, ويجمع متكلمين من فرق متعددة, وفقهاء من مذاهب متباينة ليتناقشوا في قصره وفي مجلسه, وكان ممن استدعاهم هذا الرجل أو أغراهم هذا الرجل بالمجيء إلى هذه الندوات هشام بن الحكم, فأخذ هشام بن الحكم يحضر ويتكلم في الإمامة أو في التوحيد أو في غيرها من مجال علم الكلام، فيفوق كل الحاضرين معه في ذلك المنتدى، فأبلغ خالد البرمكي الرشيد عن هشام بن الحكم وكلماته واحتجاجاته، وكيف أنه يتمكن من إقناع أي إنسان بما يريد، أو على الأقل يفحم الخصم اللجوج العنود الذي لا يمكن إقناعه، يرغمه على السكوت والتسليم ولو كذبا، طلب الرشيد أن يوضع له ستر في بيت جعفر بن يحيى البرمكي وأن تقام الندوة هناك وهو يريد أن يسمع كيف يتكلم هشام بن الحكم، وعقدت الندوة في بيت جعفر البرمكي، وجاء الرشيد ودخل من باب آخر خلف الستر، وسمع الكلام في تلك الندوة فخرج وهو يقول لا والله لا يستقيم لي ملك ومثل هذا الإنسان يمشي على الأرض.

ما هي علاقة هذا الكلام باستقامة ملك الرشيد أو عدم استقامته؟ لا يعرف ذلك إلا الرشيد نفسه، أمر الرشيد بالقبض على هشام بن الحكم، وبلغه ذلك ففر وقتها، فما كان من الرشيد – الذي يدعي بأنه أمير المؤمنين، وأنه يعمل بالقرآن، الذي يقول: ]وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[[1]، ويقول: ]لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِه[[2] - إلا أن يلقي القبض على كل عائلة هشام بن الحكم ويزجهم في السجن، ويقول لا يفرج عنهم حتى يأتي هشام فيسلم نفسه.

واستمر هشام مختفياً حتى وافته المنية في الكوفة، فقال للذي هو في بيته, إذا مت فغسلني وكفني وصل علي، ثم انزع عني الكفن وألبسني الثياب واطرحني على قارعة الطريق واكتب علي أن هذا هو هشام بن الحكم الذي كان يطلبه، طبعاً حتى تطلق عائلته من السجن، وهذه المدة استمرت عشرين سنة أو أكثر، فلما وضعه على الطريق فرآه الناس وأخبروا الوالي أبرد إلى بغداد بأننا قد عثرنا على جثة هشام بن الحكم وأشهدنا على عينها، فأمر الرشيد بإطلاق أفراد أسرته.

وأيضاً ممن كان في أيام الرشيد، عالم آخر يعرف بالبهلول، ووصل إليه الخبر أن الرشيد يتحين بك الفرص ليقتلك، فماذا فعل هذا الرجل؟ وهو في أيام شيخوخته؟ تجنن, يعني لم يكن مجنوناً ولكنه تجنن، وأصبح فأخذ له عصا يركبها، ويركض مع الصبيان ويضربها باعتبارها حمارا, وصار يرتكب كثيراً من أفعال الأطفال ليثبت عند الناس أنه مجنون, وأُبلغ الرشيد بذلك, فقال: والله ما جن ولكنه فر منا بدينه, يعني إلى هذه الحالة وهو يريد أن يقتله, لكن بعد أن جن, أو بعد أن ظهر أمام الرأي العام بأنه مجنون لا يتمكن الرشيد من قتله فيفتضح أمره, ولهذا فإن الرجل بعد أن أظهر الجنون كانت له نكاتٌ ظريفة مع الرشيد, منها أنه كان للرشيد يوم من الأيام يستعرض فيه الجنود, يعني مثل الأعياد الوطنية المعمولة في زماننا, وكان يسمى ذلك اليوم بيوم المهرجان, توضع للرشيد منصة كبيرة يجلس عليها، ومنصات أسفل منها يجلس عليها أرباب الدولة بمختلف مراتبهم ومناصبهم, وتُستعرض الجيوش والقوات وغير ذلك, فما كان من البهلول إلا أن اختفى خلف سورٍ إلى أن رأى موكب الرشيد يقترب في طريقه إلى المنصة, فأسرع في غفلة من الحراس وصعد وجلس على المنصة مكان الرشيد, فطلب منه الحراس أن يقوم وينزل فأبى, فانهالوا عليه ضرباً وركلاً حتى وصل موكب الرشيد فجروه من يده لينزلوه وهو يبكي, فقال له الرشيد: أتبكي يا بهلول؟ قال: لا أبكي على نفسي ولكني أبكي عليك, فلقد جلست على هذا المكان دقائق وقد رأيتَ ما نالني من العذاب, فكيف بك وأنت تجلس عليه من عشرات السنين؟ ثم ركب حماره العصا وانصرف. طبعاً الرشيد يعرف أنه لم يجن ولكنه تجانن, هذا الإنسان نجا بالتجانن.

أما غيره مثل محمد بن أبي عمير رضوان الله عليه وهو من تلاميذ أبي عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه عليه, وابنه الكاظم صلوات الله وسلامه عليه, ويشك بعض العلماء في أنه يروي عن الصادق مباشرة, أو يروي بواسطة, على أي حال فإنه عاصر الإمامين الصادق والكاظم, هذا الرجل أُلقي عليه القبض وأُدخل السجن، وخافت أخته أن يُفتش المنزل وأن يحصَل على كتبه وتتخذ حجةً عليه, فحفرت حفرةً كبيرة ودفنت كل كتبه, وبقي تحت التعذيب سنين كثيرة, يقول يونس بن عبد الرحمن رضوان الله عليه وكان قائداً لقوات الجيش في ذلك الوقت, ويونس بن عبد الرحمن هو من تلاميذ الكاظم والرضا عليه السلام, كان وجهاً من وجوه أصحاب الرضا, وفقيهاً من فقهاء أصحاب الرضا, يقول: مررت على محمد بن أبي عمير وهو تحت التعذيب, فقلت: لا يصبر على مثل هذا بشر, وخشيت أن يضعف وهم يصرخون عليه: أخبرنا بأسماء رؤوس الشيعة في بغداد, وبرؤوس الشيعة في الجيش, ويحاولون بكل تهديد أن يحصلوا عليهم, يقول: خشيت أن يضعف محمد بن أبي عمير فيخبر بكل أسمائنا, فدنوت منه وأسررت في أذنه: يا ابن عمير اذكر إن وراءك لعذاباً أشد من هذا العذاب, ومضيت عنه, فربط الله على قلبه وقال: لو كان أحدهم تحت رجلي ما رفعتها حتى تقطع.

على أي حال خرج ابن أبي عمير من هذا السجن وهذا التعذيب بعد سنين ولكن وجد أن التراب قد أتلف كل مكتبته ولم يبق له منها شيء، وصار يروي إرسالاً وقليلاً ما يسند الرواية، ولذلك اشتهر عند الفقهاء بمراسيل ابن أبي عمير.

وأيضاً في بغداد في أيام المعتصم أوجد قاضيه المعروف بابن أبي دؤاد بدعةً جديدة هي بدعة الكلام في خلق القرآن، هل أن القرآن مخلوق أو ليس مخلوقاً؟ وطبعاً ابن أبي دؤاد هو من المعتزلة وهو يقصد بإيجاد هذه البدعة أن يستغل منصبه وطغيان الخليفة الذي يحميه في إيذاء الأشاعرة وإيذاء أهل الحديث من غير الشيعة لأن الشيعة على أي حال هم تحت الأذى ولا يحتاج أن يوجد لهم بدعاً أو غير ذلك، فكان يرسل على أي عالم ويسأل, ما تقول في القرآن أَمخلوق هو أم غير مخلوق؟ فإن قال ذلك العالم القرآن مخلوق تركه, وإن قال ليس بمخلوق, سأله هذا خالق؟ فإن قال لا قال إذن هو مخلوق, فإذا قال لا أو سكت يجلده, أو يسجنه أو يعذبه, أو يقتله, وذهب جراء ذلك  كثير من العلماء قتلا وسجنا وتعذيبا.

وممن نالهم الأذى في هذه الفتنة أحمد بن حنبل إمام المذهب الحنبلي, وابن أبي دؤاد يعرف أن أحمد بن حنبل يجسم الله سبحانه وتعالى, ويعلم أن أحمد بن حنبل يعتقد بأن كلام الله من الصفات القديمة, وأن كلام الله هو الألفاظ والأصوات والحروف وغير ذلك, فوجه إلى أحمد ابن حنبل, فأرسل عليه وقال ما تقول في القرآن أقديم هو أم حادث؟ فقال قديم, فقال أَمخلوق هو؟ قال لا, قال أَخالق هو؟ قال لا, فأمر بجلده حتى جلد مائة أو أكثر من مائة جلدة, وكاد أن يموت تحت التعذيب, ومضى الأمر على ذلك حتى جاء زمان المتوكل.

وفي أيام المتوكل, ولحاجة في نفس المتوكل, أعلن أنه يناصر أهل السنة, ويحارب أهل البدعة, وانقلب الأمر, ولكن هل وقع نكال المتوكل بالمعتزلة؟ الظاهر أنه وقع بالشيعة وبأئمة الشيعة, ولم يصب المعتزلة بشيء إلا من تعرض منهم للحكم أو غير ذلك, ومعلوم عن أفعال المتوكل, وأن سجونه كانت مملوءة بالعلماء, سواء من العلماء الموجودين في العراق أو في الشام أو غير ذلك, ولا يستحي المتوكل أن يأتي برجل مخنث, ويأمره أن يمثل علي بن أبي طالب عليه السلام, ويحضر لهم في مجلس الشراب فيقوم هو وحاشيته بالتصفيق والاستهزاء من علي بن أبي طالب عليه السلام, فلو لم يكن إلا أن علي بن أبي طالب هو ابن عمه, وهو سيد أسرته, يعني لم يخجل حتى من هذه, ولم يخجل المتوكل أن يستدعي أبا الحسن علي الهادي عليه السلام, في مجلس شرابه ولهوه وعبثه, وأنه حبس أبا محمد عليه السلام سنين طويلة, حتى دس إليه السم في ذلك الحبس, ومضت الأمور بهذه البلدة التعيسة, ومضى ما يقاسي العلماء من الطغاة التي يكونون فيها, ومضى عهد العباسيين بكل ما فيه.

وجاء عهد التتار، والناس تضرب المثل بقسوة التتار, والناس تضرب المثل باستهتار التتار بالدماء والأعراض والأموال, التتار الذين هم جنكيز خان وهولاكو, وهولاكو هو حفيد جنكيز خان, جنكيز خان كان على أي حال وثنيا, وخرج من الصين باتفاق مع البابا في روما على أن يفني حضارة المسلمين, فكانت همته موجهة إلى هدم المدارس وإحراق الكتب وقتل العلماء, وباد جنكيز خان فأتم حفيده هولاكو ما أراده جده, من حرق المكتبات وحرق المدارس وقتل العلماء إلى أن أسلم كما يقال وتوقف عن هذا الأمر, كل هذا في ذمة التاريخ.

ودارت الأيام والسنون ببغداد فصار فيها أول من صار في عصرنا ممن لم يبال بسفك دماء العلماء وقتلهم, رجل يقال له عبد الكريم قاسم, عبد الكريم قاسم في الحقيقة ليس رجلا حزبيا, كان لا يتهم بأنه ذو حزب, ولكن عبد الكريم قاسم جاء إلى الحكم وهو لا يطمح أن يأتي إلى الحكم, كان من بيتٍ متواضعٍ جداً، ولم يكن له أنصار في الجيش، وكان مغرماً بسياسة نوري السعيد مخلصاً لها، وفي تلك الأيام كانت في الجيش جمعية يقال لها جماعة الضباط الأحرار، وجماعة الضباط الأحرار قررت إما بنفسها أو بالتعاون مع بريطانيا - لأن نوري السعيد ترك الخط البريطاني ولجأ إلى الخط الأمريكاني - قرروا إزالته والإتيان بأي شخص آخر.

على أي حال أياً كان الأمر الحقيقي في ثورة 58 فقد تقرر إزالة الملكية من العراق، فظلوا يتحينون الفرصة في ذلك، وأصدر نوري السعيد أمره إلى الفرقة التي يترأسها عبد الكريم قاسم بالخروج من مكمنها والذهاب إلى الأردن أو إلى سوريا للحرب في فلسطين، وخرجت الفرقة من مكمنها ولكن عندما وصلت بالقرب من الحدود قرروا قلب نظام الحكم، وعندئذ انبرى عبد السلام عارف واعترض على الخطة وقال إذا كان ولا بد فيجب أن يكون عبد الكريم قاسم هو الزعيم وأخذ ينادي: [ماكو زعيم إلا كريم]، وبدون شك فإن الأقوام الذين أرادوا القيام بالثورة لا يمكنهم التراجع الآن وإلا قتلوا جميعا، فأمضوا هذا القول وكتبوا البيان الأول وذكروا فيه اسم عبد الكريم قاسم، وذهب عبد السلام عارف واحتل بغداد وألقى البيان من الإذاعة، وجاء عبد الكريم قاسم بهذه الصورة المفاجئة التي لم يكن يحلم بها في يوم من الأيام.

هذا الرجل بدا خفيفاً كثير الكلام إلى حد الهذر، كثير الكلام عن نفسه إلى حد الهذر، وكل من أدرك أيامه ولا يزال يحتفظ بشيء من خطبه يتمكن من قراءتها ومعرفة مدى قدرة هذا الرجل وما عنده من أفكار، كان يريد من الناس أن يصفقوا له، فمن يصفق له فهو مخلص ووطني، ومن لم يصفق له فهو خائن وعميل إما للمخابرات الأمريكية أو لأي جهة من الجهات، وتزلف إليه الشيوعيون وصفقوا له، وأصبحوا هم المخلصين ومن عدا من أهل العراق خاصة علماء الإسلام هم الخونة والعملاء والجواسيس، ونال العذاب كل العلماء في ذلك الوقت؛ لكن الأمر أشد ما كان على الشيخ محمد مهدي الخالصي.

والشيخ محمد مهدي الخالصي في الحقيقة كان من أبطال ثورة العشرين الذين كافحوا في  إخراج الإنجليز من العراق، وقد ضاق به الإنجليز ذرعاً فنفوه إلى إيران، وفي إيران حصلت له معركتان [يعني يحارب في جبهيتن] معركة مع الشاه [رضا شاه في ذلك الوقت] ومعركة مع بعض العلماء، لأن دعوة الخالصي هي سلبية في معظمها، وعندما نقول سلبية لا نقصد العيب فيها، الخالصي دعوته كانت تقوم على نبذ البدع والخرافات والتحريفات من الإسلام، يعني ناحية سلبية، وطبعا يصطدم بكثير من العلماء بسبب ذلك، وفي نفس الوقت كان يحارب الشاه باعتباره منحرفا عن الطريق جائرا مستبداً وظالما، على أي حال زج به في طهران في السجن أكثر من ست سنوات أو سبع سنوات وخرج من السجن وقد فقد بصره.

في أيام عبد الكريم قاسم كان هذا الرجل كفيف البصر، وكان يبلغ من العمر في ذلك الوقت ما لا يقل عن السبعين أو الثمانين سنة, هذه الشيخوخة وهذا العمى لم يوقف عبد الكريم قاسم عن اعتقاله وزجه في التوقيفات وسجون بغداد، ولم يخرج إلا قبيل سقوط عبد الكريم قاسم بأشهر معدودة.

وكل سيئات عبد الكريم قاسم في حقيقتها لا تعادل من جاء بعده, لأن عبد الكريم قاسم على كل ما فيه تأخذه أحيانا رقة، فيعفو حتى مع من أساء إليه بالفعل، وممن عفا عنهم وقد أطلق عليه الرصاص وأصابه في يده صدام حسين، ولو كان عبد الكريم قاسم حاكمه في ذلك الوقت لكان لا شك حكمه الإعدام وأراح الأمة منه، ولكن مهما يكن فإن هذا دليل على أن الإنسان يجب أن يتوكل على الله سبحانه وتعالى وأن يتيقن بأن الأعمار والأرزاق ليست بأيدي الناس ولا يتمكن أحد من أن يفعل شيئا، وأنه ما لم يأت الأجل المحتوم على الإنسان عند الله فإنه لو اجتمع أهل الأرض على أن يميتوه لا يموت, وإلا فكيف تفسر أن رجلا وقف إلى عبد الكريم قاسم هذا الطاغية في الطريق مع جماعة وأطلق عليه الرصاص وقتل حارساً وأعار يده وبقي في المستشفى أشهراً حتى برئت يده، ما الذي جعل هذا الطاغية القاسي أن يقول عفا الله عما سلف ويطلقه، أليس حتى  يصل صدام إلى ما وصل إليه؟

على أي حال فإن الذين جاءوا بعد عبد الكريم قاسم في بغداد وهم ما يعرفون بحزب البعث العربي الاشتراكي، قد ارتكبوا من الأفعال ومن التدمير ومن سفك الدماء وإتلاف الفكر ومنع الكتب وإراقة الدماء وهتك الأعراض ما لم يرتكبه هارون الرشيد ولا جنكيزخان ولا حفيده هولاكو، بل إن خطتهم الخبيثة قامت على التفرقة بين المسلمين، من كل جانب، فهي من جهة تفرق بين العرب وغير العرب، ففي بداية ما جاءوا إلى الحكم طردوا كل الهنود والباكستانيين من العراق، وأمروهم بالخرج، وعندما انتهوا من الهنود والباكستانيين، أخذوا يطردون الإيرانيين والأفغان، بحجة أن شاه إيران يعادي العراق، وحزب البعث لا يستطيع أن يحارب شاه إيران وأمريكا تحميه، لكنه يستطيع أن يحارب الفقراء والعزل اللذين أيضا يضطهدهم شاه إيران، وأن عليهم أن يحملوا آثام شاه إيران، وهؤلاء في الحقيقة يطلق عليهم إيرانيين ومعظمهم ليسوا بإيرانين فمنهم من ولد جده في العراق أو جد جده في العراق، وبعضهم مضى على عائلته أكثر من نصف قرن تسكن العراق، أطلق عليهم حزب البعث الاشتراكي الوحدوي لقب الإيرانيين، وعادة لو أن دولة من الدول أرادت أن تخرج أشخاصاً من بلادها فإنها تجمع العائلة برمتها وتخرجهم، وأما حزب البعث فلا يعرف ذلك لأنه لو عمل بهذه الطريقة لسجل التاريخ بأن في سياسية حزب البعث بعض الإنسانية، وهذا ما لا يرضى به بعثي مخلص غيور، فكانوا يعتقلون الرجل من السوق أو في الشارع أو في العمل أو من أي مكان ويجمع مع غيره وينقل في سيارة في أي نقطة من نقاط الحدود وينزلون هناك، وتكون المرأة عائدة من شراء إدام أو من مدرسة أو لزيارة جارة أو طبيب أو غير ذلك وتعتقل أيضا في الطريق وتجمع مع غيرها في سيارة وتنقل لأي نقطة من الحدود، أياً كانت هذه النقطة، ويكون الطفل آتيا من المدرسة حاملا حقيبته فيعتقل في الطريق فينقل في سيارة إلى أي نقطة من نقاط الحدود ويطلق، فلا تتمكن تلك العائلة من اللقاء مع بعضها البعض أبدا، هذا إذا لم يبق في البيت رضيع أو طفل صغير لا يعلم عنه أحد، فيبكي ويبكي حتى يموت جوعاً وعطشا، وكم من الرضع والأطفال قد مات في القيود في عام السبعين والواحد والسبعين من هذا القرن بسبب هذه الفعلة التي ارتكبها البعثيون، وبطبيعة الحال من يتكلم، أو ينتقد، أو يقول إن هذا الأمر لا ينبغي أن يكون، يعتبر خائناً وعميلاً فيُحكم عليه بالإعدام أو يُعذب في مجازر البعث، ويكفيك أنهم حولوا القصور التي كانت تُعرف بأسماء جميلة إلى مواضع للتعذيب كقصر الرحاب حُوّل إلى موضع تعذيب، وكذلك قصر الزهور حُول إلى موضع تعذيب، بالإضافة إلى المخابئ التي أنشأها أمنهم تحت الأرض في بغداد أو في نقرة السلمان أو في غيرها واعتُقل كثير من العلماء ومن طلاب العلوم الدينية ويزجون بالعشرات في تلك الحفر ومنهم من يخرج حياً لا يُنتفع به أو لا يخرج إلا جنازة أو تُعمل له محاكمة صورية ويُحكم عليه بالإعدام، وذلك بعد أن يُعدم بأيام أو بليال.

وكان آخرمن أصابته هذه القضية هو المرحوم الشهيد السيد محمد باقر الصدر رحمة الله عليه وأخته الشهيدة بنت الهدى، وطبعاً هذا حصل في أيام صدام، فهذا الرجل – صدام – كان لولباً في حزب البعث حتى قبل أن يكون حاكماً، يعني حتى عندما كان الحاكم أحمد حسن البكر كان في الحقيقة الذي يُمضي الأمور والذي يقرر والذي يرفع والذي يضع هو صدام، وكان لا يبالي أن يفعل بالناس أي شيء، لكنه في الحروب جبان، وأنا أذكر لكم جبنه في الحروب.

في العام سبعين كانت بريطانيا أعلنت أنها ستخرج من شرق البحر المتوسط، وأنه لا يُمكن أن يبقى فراغ في الخليج، ولا بد من وجود دولة قوية تأخذ على عاتقها ملأ الفراغ, وتمثل شرطي الخليج، ورشحت بريطانيا العراق للقيام بهذه المهمة بدلها، وطبعاً من يريد أن يقوم بهذه المهمة عليه أن يكسر قرني إيران، لأن إيران وهي الدولة القوية، الكبيرة، الواسعة الأرجاء، المترامية، التي يبلغ سكانها عشرات الملايين لن ترضى بذلك؛ فلابد إذن من كسر قرنيها، وأمرت بريطانيا أو أوحت بريطانيا إلى حزب البعث في ذلك الوقت أن يُثير مشكلة شط العرب وأن يجمع جيوشاً كثيرة على حدود إيران، وفعلاً اجتمعت جيوش كثيرة على حدود إيران، ومن كان في إيران في ذلك الوقت؟ هو محمد رضا بهلوي، ومحمد رضا بهلوي خادم مطيع للبيت الأبيض، وطبعاً لا يوافق حكام البيت الأبيض على أن يُهزم، فأعطوا إشارة حمراء لبريطانيا بالنسبة إلى ذلك، وتعطل مشروع الحرب وعُملت سياسة جديدة بأن تُعطى لإيران طنب الصغرى وطنب الكبرى وتُشارك في أبو موسى وتُحل مشكلة البحرين عن طريق الاستفتاء ويكون على الشاه أن يعترف بأن هناك تغيرات اجتماعية قد وُجدت في البحرين في خلال القرنين الماضيين على حسب  تعبيره هو، وتُحل المشكلة وبذلك يُعلن شاه إيران بأنه شرطي الخليج ولا يكون للعراق دور في هذه الناحية، وفعلاً هذا الذي حدث وأثبت شاه إيران أنه شرطي الخليج بأن أرسلت إيران جيوشاً تُحارب في عمان الثوار في ظفار، وبقيت الجيوش العراقية واقفة على الحدود الإيرانية إلى عام 1973م, حيث أبرقت الحكومة العراقية للحكومة الإيرانية بأنها ستسحب جيوشها من حدودها لتحارب في تحرير فلسطين في حرب رمضان، ووافقت إيران على أن تنسحب الجيوش العراقية من حدودها وذهب قسم من الجيش العراقي إلى الأردن وهناك أغرى الفلسطينيين بالتحرش بالجيش الأردني واضطر الجيش الأردني أن يضرب الفلسطينيين، وكان الفلسطينيون يعتقدون أن الجيش العراقي يفصل بينهم وبين الجيش الأردني وبأنهم لن يسمحوا للجيش الأردني بالعبور، لكن بالعكس، الجيش الأردني ضرب الجيش العراقي وعبر، وضرب الفلسطينيين في معركة قاسية عُرفت بأيلول الأسود، واعتذرت بغداد عن خطأ الجيش الأردني في ضرب الجيش العراقي، وكانت هذه مساهمة جيش البعث في حرب رمضان وتحرير فلسطين، هذا الجيش الذي لم يحارب في فلسطين وكان مُستعداً أن يُحارب إيران إذا وقفت معه مثلاً بريطانيا وروسيا، ولكن لأن أمريكا لم توافق ارتكب بعد ذلك أشد التنكيلات تجاه الشعب العراقي، وضرب القرى الكردية بالقنابل، وأزال قرىً بكاملها ونكل بالأكراد الفقراء المساكين، ونُقل قسم منهم للسكنى في جنوب العراق، ونُقل قسم من العرب على رغم آنافهم للسكنى في بلاد الأكراد، وبقي الأمر على ذلك، إلى أن قامت الثورة الإسلامية في إيران، وتغيرت الموازين،  فأخرجت بريطانيا المشروع القديم من الدرج، بأن يكون العراق هو الذي يملأ الفراغ في الخليج، وأعطى البيت الأبيض إشارة خضراء وحصلت الحرب العراقية الإيرانية، التي كلكم أدركتموها وأدركتم مواقف الجيش العراقي وما فعله في داخل المدن الإيرانية، وما فعله في مدينة الحويزة، ومدينة الحويزة ليس فيها عجمي واحد بل كلهم من العرب، وكيف فجر بالنساء ودفنهن أحياء، وكيف نهب الأموال وهدم المساكن وغير ذلك، وطبعاً كان ذلك بمباركة من الغرب والشرق، ومساندة ومباركة منا نحن أهل الخليج أيضاً، بل كل العرب ولا نتبرأ من أننا كلنا أي كل العرب الذين باركوا ذلك قد تحملوا قسطاً من آثام صدام.

ورجع الجيش العراقي بعد الحرب الإيرانية مهلهلاً وإن كان في ظاهره بصورة نصر أو كما يعبر عنها الدول لا نصر لطرفٍ من الطرفين ليتوجه إلى حلبجة ليقتل أهلها بالغازات السامة ثم يتوجه إلى سائر المدن العراقية من زافو إلى نهاية صفوان ليذيق أهلها الويل والثبور، وينكل بالأبرياء ويعتقل أهل الفكر وأساتذة الجامعات والعلماء وغير ذلك, إلى أن صار اعتداؤه على الكويت وما فعله بالكويت كان واضحاً، ورجع الجيش من الكويت وهذا الرجل لم يأمر جيشه بإطلاق رصاصة تجاه جيوش الحلفاء لأنه خار وارتبك حتى أنه لم يتمكن أن يفعل شيئاً، وأمر جيشه بالانسحاب تحت وابل القنابل وأزيز الطائرات مما أدى إلى مقتلة عظيمة في الجيش العراقي من دون حربٍ مطلقا.

عاد هذا الجيش المهزوم وخاصةً الحرس الجمهوري الذي لم يحرك ساكناً تجاه الحلفاء, عاد ليقصف الآمنين وليبيدهم وليقتلهم وليحاربهم, لا لشيء إلا لأنهم يطالبون بحقهم, وقضية اعتقال السيد أبي القاسم الخوئي [أيده الله] ليست بدعة من كل ما جرى من هذا الطاغية أو لغيره من الطغاة الذين جاؤوا إلى بغداد من أول يوم لتأسيسها, ولكن كما أن تلك الاعتداءات السالفة على العلماء طيلة هذه الأزمان لم يتمكن الطغاة أن يستفيدوا منها شيئاً بل صارت لطخة عارٍ تبقى إلى يوم القيامة فهذه القضية هي أيضاً مثل تلك, وإذا كان صدام إنما اعتقل السيد أبا القاسم الخوئي ليلزمه بالتنديد مثلاً بمعارضة بلاده أو غير ذلك, فالظاهر أن هذه خطة إعلامية فاشلة لأن كل العالم يعلم بأن هذا الإنسان معتقل, فإذن ما يقوله أو ما يقال عنه سوف يؤول أو يفسر بأنه تحت الإكراه، ولو أنه ترك السيد حفظه الله في بيته وكذب على لسانه في الإذاعة والتلفزيون لكانت الفائدة في تضليل كثير من الملايين السذج أكثر, أما الآن حتى هؤلاء السذج وقد علموا بأن السيد معتقل لن يصدقوا ما يذاع من إعلان النظام العراقي وإعلام صدام بالذات, إضافةً إلى أنه لا يتمكن أن يفعل به سوءًا في الوقت الحاضر إلا أن تبلغ به الحماقة والجنون والهوس إلى غير ذلك, لأنه بعد أن ظهر معه ويتحدث معه في التلفزة وغير ذلك فمعلوم أنه مسؤول عنه, فلو أنه أقدم على فعلة تمس به فلا إشكال أن هذا يكون مسؤولاً عنه، ومسؤول عنه كل أفراد نظامه من وزير إلى مجلس ثورة إلى غير ذلك, فلا إشكال أن هذه الفعلة الشنيعة لا تختص جريمتها بصدام وإنما تحمل مسؤوليتها جميع أعوان صدام وإذا كانوا يتبرؤون أو تمكنوا أن يتبرؤوا من كثير من جرائمهم فإنهم لن يتمكنوا أن يتبرءوا من هذه الجريمة, وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعجل بسقوط هذا الطاغية وأن يفرج عن الأمة العربية والإسلامية وعن شعب العراق من هذا الكابوس الجاثم على صدره.

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

 

 *  محاضرة ألقاها الشيخ سليمان المدني بمناسبة اعتقال النظام العراقي لأستاذه آية الله السيد الخوئي في 6 شهر رمضان1411هـ

[1]  الأنعام: من الآية164

[2]  البقرة: من الآية233

مؤسسة إسلامية تُعنى بحفظ تراث العلامة الشيخ سليمان المدني (قده) ونشره، وحفظ المبادئ والقيم والثوابت التي ينتمي إليها سماحته، والتي دافع عنها طول حياته.