khutab aljumaa3

مصيبة الحسين عليه السلام

الجمعة 11 محرم 1419هـ المصادف 08 أيار 1998م

الخطبة الأولى:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي جعل الدنيا سجناً لأوليائه، وجنَّةً وبهجة لأعدائه، جلَّل فيها أحبته بثيابِ المِحن والمصائب, وكتب عليهم فيها كتاب الحزن والنوائب، فشربوا كؤوس علقم المِحن رضاً بقضائه، وعدوا ذلك من جميل المواهب، ففازوا لديه بأعلى المنازل وأشرف المراتب، صرف أبصارهم عن التطلع إلى مقاماتها، وفتح أنظار بصائرهم على قبحها وحقارتها، فقضوا في سجنها الأيام صبرا على قضائه، ولم يتألموا على ما نالهم من مكائد أعدائه، لما يرتقبون من الكرامة في مجلس لقائه، وما أعدَّه من النعيم للخلص من أودّائه، فاتخذوها طريقاً ومتجراً للآخرة، وذريعة لنيل تلك الدرجات الفاخرة.

نحمده سبحانه على ما هدانا إليه عند تفرق الأهواء، من التمسك بالحنيفية النوراء، والالتزام بالشريعة الغرَّاء، ونشكره تعالى على ما ألهمنا عند تشتت الآراء، من التقيد بأقوال الأئمة النجباء، والالتزام بما أوصى بالتمسك به سيدُ الأنبياء، ونسأله الصَّبر على ما أبرم في لوح القضاء، والعافية فيما يجوز فيه المحو الإمضاء.

ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً دائمة مؤبدة، وعقيدة جازمة مؤكدة، خالية من شوائب الظنون والأوهام، خالصة لوجه الملك العلام، تكون لنا ذخرا عنده يوم لا ينفع مال ولا بنون، وأماناً لديه في يوم تشخص فيه الأبصار وتبرق العيون.

ونشهد أنَّ محمداً صلى الله عليه وآله عبده ورسوله، الباذل في رضاه مهجته، حتى أسالوا دمه وكسروا رُبَاعِيَّـتـَه، المجاهد في سبيله بعشيرته وقرابته، حتى استأصلوا لأخذ الثارات منه ذريته وعترته.

صلى الله عليه وعليهم صلاةً لا يُعرف لها غاية، ولا يُعلم لأمدها نهاية.

عباد الله, أوصيكم ونفسيَ الجانية قبلكم بتقوى الله سبحانه، وتتبع مراضيه، والإلتزام بأوامره ونواهيه، وتجنب محظوراته ومعاصيه، وأحذركم ونفسي الجموح النافرة، من الركون إلى زينة هذه الدنية الماكرة، والإغترار بوعود هذه المحتالة الخاترة، فإن حبها والتعلق بها هو السبب الحقيقي للخسران في الآخرة، ألم تسمعوا قول النبي صلى الله عليه وآله: "حب الدنيا رأس كل خطيئة"[1]، فمن أشرب قلبه حبها قادته إلى ارتكاب الموبقات، وزيّنت له فعل المحرمات، وهوَّنت عليه ما يأتيه من كبائر السيئات، وهل نَـبَذ شرائع الله وكتبه، وحارب أولياءه وكذب رسله، إلا عشاق مجد هذه الدنيا؟، وبغاة نعيمها، المتشوفين إلى الرفعة فيها، الذين استحوذ عليهم الشيطان ففتنهم بزينتها، وألهاهم بالتفاخر بها، وشغَلهم بالتكالب عليها، حتى خالفت ألسنتُهم قلوبَهم، وزينت لهم أنفسهم سوء عملهم، فمالوا عن الحق وهم ينظرون، وصدفوا إلى الباطل وهم يعلمون، وتجرئوا على الله سبحانه غير ناظرين إلى إحسانه، ولا متقين من نيرانه، فأصبحوا كالأنعام بل هم أضل سبيلا.

انظروا إلى عشاق الدنيا، والعاملين لها وما فعلوه بذرية النبي المختار، كيف أعملوا فيهم السيف البتار، وشرّدوهم عن الأهل والديار، وصبوا عليهم المصائب والأكدار، ولا سيما ما فعلته الزمرة الأموية، والسلالة الشيطانية، وكلهم لصيق ابن لصيق، وطليق ابن طليق، بريحانة سيد المرسلين، وقرَّة عين سيدة نساء العالمين، وثمرة فؤاد أمير المؤمنين، يوم جيَّشوا عليه الجيوش والعساكر، وسدُوا في وجههِ الدروب والقناطر، ومنعوه من شرب الماء، وضيقوا عليه رَحب الفضاء، وهم يعلمون أنه الإمام المفترض عليهم طاعته وولايته من رب السماء، فحصروه مع أنصاره وأعوانه، وأولاده وإخوانه، في صحراء الإكتئاب، ومنعوهم من الطعام والشراب، وقتلوا تلك النفوس الزكية ورموا بأجسادهم للنسور والكلاب، وعفروا تلك الوجوه النورية في التراب، لكي تصفو الدنيا للطغاة ذوي العناد، وتتسق الأمور للأنكاد الأوغاد، وينفذ أمر بني أمية على رؤوس العباد، وتبقى بنات الطلقاء في القصور، وبنات رسول الله في مهب الصبا والدبور، لاطمات الصدور، داعيات بالويل والثبور، نادبات على تلك البدور.

فهذه يا إخوة الإيمان أحوال أبناء الدنيا وطلابها، وهذه أفعال عشاق الرفعة في هذه الدار التي لا أمان لمن طمح لها، فهل في ذلك عِبرةً لمعتبر؟، فيقيد نفسه بزمام الإيمان، قبل أن يسلس قيادها الشيطان، ويوردها موارد الخسران، ودار المذلة والإمتهان، ويجعلها وقوداً للنيران.

ثبتنا الله وإياكم على ولاية الأئمة المعصومين، ووفقنا معكم للتمسك بحبله المتين، والعمل بشرعه المبين، ونجَّانا جميعا من الانصياع لما تسوس به الشياطين، للفجرة والفاسقين، وحشرنا في زمرة محمد وآله الميامين، إنه على ما يشاء قدير، وهو بالإجابة حري جدير.

إن أبلغ خطاب، كلام الله الملك الوهاب، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

]الْقَارِعَةُ & مَا الْقَارِعَةُ & وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ & يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ & وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ & فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ & فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ & وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ & فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ & وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ & نَارٌ حَامِيَةٌ[[2].

وأستغفر الله لي ولكم إنه غفور رحيم وتواب حليم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله باعث الأنبياء والمرسلين، ورافع درجات الشهداء في عليِّين، جذب إلى حضيرة قدسه أرواحهم، وطيّب في مرتع أنسه مراحهم، ألبسهم خِلع البهجة والسرور، وفتح لهم حدائق المسرة والحبور، فعزفت نفوسهم عن دار الغرور، وما فيها من لذة وسرور، واستعذبوا طعم المنايا، وكرعوا كؤوس البلايا، لنيل تلك المواهب والعطايا، وسلَّموا له الإختيار في الإيراد والإصدار، وتدرعوا بمدارع الإصطبار, على ما جرت به الأقدار، ليفوزوا بعالي الدرجات في دار الأبرار.

نحمده سبحانه وهو أهل المحامد، ونستهديه لأنجح المقاصد، ونعوذ به من شر كل حاقد، ونلوذ بعزته من بغي كل قاصد، ونلجأ إليه في دفع الشدائد، ونعتمده في الخلاص من المكائد.

ونشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له، ولا معاضد ولا ولد له ولا والد، ولا معين له ولا رافد، شهادة نعلنها عند كل جاحد، ونلتزم بها وأن رغم المعاند.

ونشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله عبده ورسوله، الذي انتجبه وأرسله، وصفَّاه من كل دنسٍ وكمَّله، وبما امتحنه من البلاء على جميع الأنبياء فضله، شهادة تبلغنا عند الله أعلى منزلة، وتكون لنواقص أعمالنا مكملة.

صلى الله عليه وعلى الهداة من ذريته وآله، ما دارت الأفلاك السماوية، وسَبَّحت الأملاك في العوالم العلوية، صلاةً تدفع عنّا كل بلية، وتنقذنا من كل رزية، في هذه الدنيا وفي الحياة الأخروية.

أوصيكم عباد الله ونفسيَ الجانية قبلكم بتقوى الله سبحانه، والتمسك بربقته، وتتبع مرضاته والعمل بطاعته، وأحذركم ونفسي قبلكم من اتباع خطوات الشيطان والدخول في زمرته، والاغترار بهذه الدار؛ في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله أنه كلما ابتعد الإنسان عن علي عليه السلام وعن الأئمة عليهم الصلاة والسلام كلما دخل في حزب إبليس[3]؛ وأحذركم ونفسي قبلكم من اتباع خطوات الشيطان والدخول في زمرته، والاغترار بهذه الدار، المشحونة بالمصائب والأكدار، والنوائب والأخطار، فإنها دار قد ذمها خالقها في كتابه، وبغّضها لأوليائه وأحبابه، حيث كشف عن بصائرهم فشاهدوا مقاعدهم في تلك القصور، بين الولدان والحور، ورأوا ما فيها من النعم والحبور، فلذ لهم شرب كاسات الحتوف، وهان عليهم رشق النبال وضرب السيوف، ولذا بذلوا الأرواح في يوم الطفوف، حينما ازدحمت فيه على آل الرسول الصفوف، وازدلفت لقتالهم الألوف تلوَ الألوف، وأخذت الكلاب الأموية تمزق لحم الرسول، وتنهش بضعة الزهراء البتول، فهل يأسف على شيء من الدنيا بعد الحسين مؤمن، أو هل يلتذ بشيءٍ من لذائذها موحِّد، وكيف يلتذُّ بمائها من يتصور مولاه الحسين وقد حُرم من الماء في حرِّ الهجير؟ وكيف يتهنأ بالنوم في القصور من يعلم أن مواليه تدمى منهم النحور على الرمال والصخور؟ فيا لله من قلب لا يتصدع لهذه الأمور، ويا عجباه من غفلةِ أهل هذه الدهور، فيا أيها الشيعة الأنجاب، ويا معشر المؤمنين الأطياب، ساعدوا ساداتكم في هذا المصاب، لتفوزوا عند الله بجزيل الثواب ففي خبر عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال لمسمع ابن عبد الملك : "أتدري ما صنع بالحسين؟ قلت: إي ولله واستعبرت, قال: رحم الله دمعتك, أما أنك من الذين يفرحون لفرحنا, ويحزنون لحزننا, أما أنك سترى عند موتك آبائي حضوراً لك, وتسمع وصيتهم ملك الموت بك, وما يلقنك به من البشارة, ولملك الموت أرقُّ عليك وأشدُّ رحمة بك من الأم الشفيق على ولدها, قال ثم استعبر واستعبرت معه"[4].

ألا وإن من أقرب القربات إلى الله وإليهم، وأجزل المثوبات لديه سبحانه ولديهم، هو إكثار الصلاة والسلام عليهم.

اللهم صلِّ على من خاطبته بأنَّك لعلى خلق عظيم، حيث شرب من كأس الرضا والتسليم، لما أنزلته به من كل فادح عظيم، فلذا فضلته على كل رسول كريم، وشرفت بالإنتساب إليه خليلك إبراهيم، المصطلي بنيران الأحزان مدى الأبد، والشارب بكئوس الأشجان التي لا تعد، النبي الأمي المسدد, أبي القاسم المصطفى محمد.

اللهم صلِّ على من أناخت عليه بعده بكلكها المصائب، وأفرغت عليه هواطلها دِيَمُ النوائب، الإمام بالنص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

اللهم صلِّ على ذات الأحزان الطويلة والمدة القليلة، المدنفة العليلة، والسيدة الجليلة، البتول العذراء، أم الحسنين فاطمة الزهراء.

اللهم صلِّ على شمسي نهارها، وقمري أنوارها، ومصباحي دارها، الشارب بكأس السموم والمحن، الإمام بالنّص أبي محمد الحسن، ومن أقيمت مآتمه قبل الميلاد، وطبق الحزن عليه السبع الشداد، محزوز الوريدين، ودامي الودجين الإمام بالنص أبي عبد الله الشهيد الحسين.

اللهم صلِّ على من شرب بقية ذلك الكأس المشئوم، وجرع فضل ذلك العلقم المسموم، المشتهر بابن الخيرتين، الإمام بالنص أبي محمدٍ علي بن الحسين.

اللهم صلِّ على من شعَّت بأنواره شموس الشريعة، وانطمست بأقمار رسومه البِدع الشنيعة، وارتقت بفضل علومه مدارس الشيعة، صاحب الفضائل والمآثر، الإمام بالنص أبي جعفرٍ محمد بن عليٍ الباقر.

اللهم صلِّ على من رفع أعلام الدين، وأخرس شقاشق المعاندين، بالحجج القاطعة والبراهين، لسان الحق الناطق، الإمام بالنص أبي عبد الله جعفر بن محمدٍ الصادق.

اللهم صلِّ على المتوشح برداء الخوف والتقية، المتقمص بقميص الهموم اليعقوبية، معبد مسالك المآثر والمكارم، ومشيد المعاهد والمراسم، الإمام بالنص أبي إبراهيم موسى بن جعفر الكاظم.

اللهم صلِّ على من دانت بفضله علماء المِللِ والأديان، وأذعنت بصواب حكمته الأنسُ والجان، المسلِّم لربه في كل ما جرى به القضاء، الإمام بالنص أبي الحسن الثاني علي بن موسى الرضا.

اللهم صلِّ على من أسكت بحجته ألسنة المعاندين، وأفلج بمنطقه لجاج الحاقدين، رافع علم الهداية والرشاد، وباني مدارس الجود والإرشاد، الإمام بالنص أبي جعفرٍ الثاني محمد بن عليٍ الجواد.

اللهم صلِّ على السيدين السندين، والكهفين المعتمدين، سيدي المشعرين، وإمامي الحرمين، أبي الحسن الثالث علي بن محمدٍ وابنه أبي محمدٍ الحسن العسكريين.

اللهم صلِّ على الطلعة القمرية، والأنوار البدرية، والشهامة الحيدرية، نورِ الله الذي لا يخبوا, وسيفه الذي لا ينبو، المحيي لما اندرس من الفرائض والسنن، الإمام بالنص مولانا المهدي بن الحسن.

عجل الله تعالى فرجه، وسهل مخرجه، وبسط على وسيع الأرض منهجه، وجعلنا ممن يدخل في حياطة دعوته، ويسعدنا بالنظر إلى غرته، إنه هو الكريم المنان، ذو الجود والإحسان.

إن أحسن ما ختم به الكلام، وأمتن ما وعته الأفهام، كلام الله ذي الفضل والإكرام، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحِسانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[[5].

وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات إنه غفور رحيم.

 

 

[1]  بحار الأنوار-ج51-ص258 العلامة المجلسي

[2]  سورة القارعة

[3]  عن النبي ص أنه قال: "حب علي بن أبي طالبٍ حسنةٌ لا تضر معها سيئة, وبغضه سيئةٌ لا تنفع معها حسنة" بحار الأنوار – ج39 – ص248 – العلامة المجلسي

[4]  بحار الأنوار–ج44-ص289/290-العلامة المجلسي

[5]  سورة النحل:90

معلومات إضافية

  • التاريخ الهجري: 11 محرم 1419هـ
قراءة 739 مرات
قيم الموضوع
(0 أصوات)
آخر تعديل في الإثنين, 31 يناير 2022

مؤسسة إسلامية تُعنى بحفظ تراث العلامة الشيخ سليمان المدني (قده) ونشره، وحفظ المبادئ والقيم والثوابت التي ينتمي إليها سماحته، والتي دافع عنها طول حياته.