قتل الحسين
الجمعة 6 محرم 1417هـ المصادف 24 أيار 1996م
الخطبة الأولى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي نزه عن التشوف لبهجة الدنيا قلوب أوليائه, وصرف عن التطلع إلى مقاماتها أبصار أحبائه, وفتح على حقارتها بصائر أودائه, فقضوا في سجنها الأيام صبراً على قضائه, ولم يتألموا على ما نالهم من مكائد أعدائه, ولم يتأسفوا على ما حل بهم من عظيم بلائه, قد شغلهم عن التمتع بلذات هذه الدار ما يأمنون من الكرامة في مجلس لقائه, وما أعده من النعيم للخلص من جلسائه، حيث البهجة والسرور، والفرحة والحبور، التي هي أعلى من سكنى القصور، وأهنأ على القلب من معانقة الحور.
نحمده سبحانه حمداً يفتح لنا أبواب الإنابة والفلاح, ويوجب لنا الفوز والصلاح, ونشكره تعالى شكراً أقل عوائده النجاح، وأدنى فوائده معانقة العين الملاح، حمداً وشكراً يدومان بدوام المساء والصباح, ونستعينه جلَّ اسمه على أنفسنا بالمعالجة والإصلاح ونسأله التوفيق للخير في البكور والرواح.
ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, المتوحد بكمال الصفات, المتفرد بوحدانية الذات, الذي تاهت بصائر ذوي الألباب في بيداء معرفته, وغرقت الأحلام في بحار كيفية نعته وصفته، فأقرت مذعنةً بربوبيته, ومدت أكفها سائلةً إفاضة هدايته.
ونشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله عبده الذي اختاره بعلمه لرسالته, وحبيبه الذي اصطفاه لخلته، فبعثه هادياً وبشيرا, وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيرا, فأقام صلى الله عليه وآله دعائم الدين, وأرسى قواعد الحق واليقين, ونشر كلمة التوحيد حتى أسمعها من في الخافقين, ونقض صروح المبطلين, وأهار أركان الملحدين، بعد أن أجهد في محاربة أتباع الشيطان, ونصب في مكافحة ذوي المروق والعصيان, وصبر على أذية ذوي النفاق والأضغان.
فصلي اللهم عليه وعلى آله مشارق أنوار شموس الحق المضية, ومطالع أنوار الهداية الوضية, الأقمار المشعة بالحقائق الإلهية, حماة دعائم الديانة المحمدية, وسفن نجاة الأمة الإسلامية, صلاةً عابقةً زكية, منقذةً من الفزعة الدوية, يوم يقوم الناس من الوطية، وتعرض الأعمال على رب البرية.
اعلموا عباد الله إن الله سبحانه جعل هذه الدنيا دار ابتلاءٍ واختبار لا دار راحة واستقرار، فجمع فيها الأخيار والفجار، والمؤمنين والكفار, وضيق على أوليائه فيها بالمنغصات والأكدار، وسلط عليهم الفسقة والأشرار, فسعوا نحوهم بالمكائد والمعاطب، وسقوهم جامات النكد والمصائب، وسلُّوا عليهم سيوف البغي والعدوان، وحاربوهم في كل ميدان، وسلقوهم بكل لسان, ولم يكتفوا بإبعادهم عن مناصبهم التي عينهم الله فيها، ومراكزهم التي رتبهم الله عليها، بل أدى بهم ما يحملون من بغضٍ لهم وحقدٍ عليهم إلى العمل على إضعافهم وإذلالهم، ولصق المفتريات والأكاذيب بهم، وبذل كل ما في وسعهم لتشويه صورتهم أمام الناس لإبعادهم عنهم حسداً لهم على ما أعطاهم الله من الفضل والرفعة مع اعترافهم بأنهم آل نبيهم دونهم, وحتى أصبح الواحد منهم يعيش في بلده غريباً خائفا. هذا الحسين بن عليٍ عليهما السلام سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وريحانته الذي طالما قال فيه: "حسين مني وأنا من حسين, أحب الله من أحب حسينا وأبغض الله من أبغض حسينا"[1], انظروا كيف خرج من المدينة في ظلمة الليل خائفاً يترقب ولم يتمكن من الاستقرار في مكة بسبب ميل الناس مع بني أمية وانحيازهم إليهم وحتى أنه بنفسه وبأبي وأمي أحسَّ أنه إن بقي في مكة هتكت به حرمة الكعبة كما قال لابن عباس، فخرج والناس على الحج مقبلين ولم يزالوا به تلاحقه عيونهم وتتبع سيره عسسهم, حتى حصروه في كربلاء على غير ماءٍ ولا كلى وضيقوا عليه الآفاق وسدوا عليه المنافذ ومنعوه من شرب ماء الفرات فعرض عليهم أن يرجع من حيث أتى إن كانوا لمقدمه كارهين، أو يذهب إلى أحد ثغور البلاد فيكون عوناً لهم على من يحاربهم من أصناف الكفار, فرفضوا عروضه فعرض عليهم أن يذهب إلى يزيد بنفسه ويقابله مباشرةً فأبوا عليه إلا الإذلال بالتسليم لهم أو الصبر عن الموت, وإنما فعلوا ذلك لشدة ما يشعرون به من الحقد الدفين الناتج عن وقائع أحدٍ وحنين، وما فعل بهم أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهم في النهروان وصفين, فهذه حال الدنيا أيها المؤمنون مع سادات العباد، وهذا فعلها مع الأتقياء الأمجاد، فكيف ترتجون منها أن تعاملكم بالحسنى وأنتم أتباع الأئمة الكرام, فلا تغرنكم ببهجتها ولا تصطادكم بفخاخها فلئن مِلْتُم معها وصبوتم لدعوة عشاقها لتخرجن منها آسفين على ما فرطتم, نادمين على ما ارتكبتم, فدعوا هذه المنتنة لأهلها عليها يتصارعون، ومن أجل وصالها يتحاربون، وعلى جيفتها يتهارشون، واعملوا للدار الباقية حيث الفرحة والسرور، والبهجة والحبور, حيث الخيام والقصور, حيث معانقة الحور، بل أعظم من ذلك بهجةً كسب الرضا من الرب الغفور، ومجاورة النبي والأئمة الميامين والشهداء والصديقين ولأجل ذلك فليتنافس المتنافسون.
جمعنا الله وإياكم على الهدى, وأنجانا معكم من سقطات الردى, وجنبنا صرعات الهوى, ودفع عنا كيد العدى، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة حريٌ جدير.
ألا وإن خير ما ختم به الخطاب، وتأمله ذوي الألباب، كلام الله المستطاب, أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
]الْقَارِعَةُ & مَا الْقَارِعَةُ & وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ & َيوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ & وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ & فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ & فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ & وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ & فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ & وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ & نَارٌ حَامِيَةٌ[[2].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه غفورٌ رحيم وتوابٌ حليم.
الخطبة الثانية:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب, وأفاض من حكمته على من اتبع هداه فأناب, وأوضح لذوي البصائر طرق السلامة والصواب, فتح لعباده أبواب الهداية والرشاد, وأنار لقاصد الخير سبل الإصابة والسداد, فميزوا بين منطق دعاة الإصلاح ومنطق مريدي الإفساد.
أحمده سبحانه في السراء والضراء, وأشكره تعالى في حالتي الشدة والرخاء, وألتزم بشريعته وإن عم البلاء, وأقتفي آثار أوليائه وإن طم الابتلاء, وأعتمد حراسته جلَّ ذكره في النجاة من تهديد الجهلاء, وأستدفعه غائلة ما يبيت الأعداء, وأستكفيه شر ما أبرم من القضاء.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, شهادةً أرغم بها أنوف الملحدين, وأخرج باعتقاد مصاصها من صفوف المشبهين, وأًكتب بإعلانها في زمرة المؤمنين، الذين يرجون رحمته ويخافون عذابه وهم بلقائه من المؤمنين، ]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ & نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ[[3].
وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله عبده ورسوله جاء بالحق من عند ربه وصدق المرسلين، وصدع بالدعوة لله ناصحاً لعباده معرضاً عن الجاهلين, وقام بالنذارة متحملاً لأذى المكذبين, فكان خلقه الطيب هو الدعامة الكبرى التي استقام بها أود الدين.
صلى الله عليه وآله الهداة الميامين, خلفاء رب العالمين, وأوصياء رسوله الأمين, الذين أمر الله بالتمسك بحبلهم، وأوصى بملازمتهم، فمن أطاعه فيهم فقد فاز بخير الدارين.
عباد الله اعلموا رحمكم الله أن هذه الدار دار ابتلاءٍ وامتحان، وليست بدار أمانٍ واطمئنان, فمن ركن إلى غرورها باء بالخذلان, ومن اطمئن إلى نعيمها رجع بالنصب والخسران, وكيف يرجو الراحة عندها أحدٌ من أهل الإيمان وهو يرى ما فعلته بسادات الزمان، وأمناء الملك الديان, فقد أخلت منهم المنازل والطلول, وسقتهم بكاسات الخطب المهول, ورفعت عليهم كل جهول, ألا ترون ما رمت به إمامكم الحسين عليه السلام من سهام التعذيب والنكال ولم ترضاه بشيءٍ حتى جُدِّل على حر الرمال, وذُبِح بسيوف البغي والضلال, ورفع رأسه على الرمح كالهلال, هذا ويزيد العهر مطمئن على عرشه يشرب بارد الزلال, ويتكأ على سرر اليمن والإقبال, فيا عباد الله إياكم والوثوق بهذه الدار والركون إلى جنة الأشرار, فالبدار إلى الفرار من مكرها البدار, وكونوا ممن لبى منادي الخير وأجاب قبل أن تغلق الأبواب, وإن شئتم النجاة غداً والبشرى والفوز عند الله بالسعادة الكبرى، فهذه أيام المحرم قد لفحتكم بصبى الأشجان, وسموم الأحزان على قرناء القرآن, اغسلوا فيه درن الذنوب والعصيان، بالبكاء على الغريب العطشان, النائي عن الأهل والخلان, وتقربوا فيه إلى الملك المنان، بإظهار شعار الحزن بالمدفون بلا غسل ولا أكفان, وأخلصوا فيما تفعلونه النيات فإنه عند الله من أعظم القربات, ففي حديث الريان بن شبيبٍ عن الصادق عليه السلام أنه قال له: "يا ابن شبيب: إن كنت باكياً فابك الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، فإنه ذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم على وجه الأرض من شبيه، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلافٍ لنصره فوجدوه قد قتل, فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائم..، يا ابن شبيب, إن بكيت الحسين عليه السلام حتى تصير دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنبٍ أذنبته، صغيراً كان أو كبيرا، قليلاً كان أو كثيرا"[4], فاتخذوا يا شيعة المختار هذه الأيام مأتما, واجتهدوا أن لا يرى منكم أحدٌ مازحاً ولا مبتسما, فإن هذه المصيبة قد أحزنت قلب الرسول, وأسالت مدامع الزهراء البتول, وألهبت فؤاد الأسد الصؤول.
البسوا رحمكم الله لأجلهم ثياب الهم والحزن لتفوزوا من الله ومنهم بالمنن, وأكثروا عليهم من الصلوات، التي هي مطايا الدعوات، وبها يكون نجاح الطلبات وقضاء الحاجات.
اللهم صلِّ على سيد النبيين, والخيرة من عبادك الصالحين, الذي بعثته رحمةً للعالمين, وختمت به المرسلين, حصنك المشيَّد, ورسولك المؤيد, أبي القاسم المصطفى محمد.
اللهم صلِّ على البدر الطالع من دوحة لؤي بن غالب, مظهر العجائب والغرائب, نورك الذي أشرقت به المشارق والمغارب, الإمام بالنص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
اللهم صلِّ على المهضومة المظلومة, والعالمة المعصومة, بضعة رسولك الأمين, وزوجة سيد الوصيين, ذات المقلة العبرى, أم الحسنين فاطمة الزهراء.
اللهم صلِّ على غصن الدوحة الأحمدية, وبدر الأسرة العلوية, المتحلي بالأخلاق الرضية, مفترض الطاعة على كل البرية, السبط الممتحن، والإمام المؤتمن, الإمام بالنص أبي محمدٍ الحسن.
اللهم صلِّ على قتيل الطفوف, المبضع بالسيوف, مقطوع الرأس والكفوف, غياث الملهوف, زكي النسبيين, هاشمي الأبوين, الإمام بالنص أبي عبد الله الحسين.
اللهم صلِّ على المتنزل من الخيرتين, المفسر لكتاب رب العالمين, شمس نهار العارفين, وبدر سماء المتهجدين, الإمام بالنص أبي محمدٍ علي بن الحسين زين العابدين.
اللهم صلِّ على الدر الفاخر, بل الجوهر النادر, الذي ليس له في الفضل من مناظر, ولا في العلم من مكاثر, أشرف الأوائل والأواخر, الإمام بالنص أبي جعفرٍ محمد بن عليٍ الباقر.
اللهم صلِّ على علم التحقيق, ونبراس التدقيق, ذي الفكر الدقيق, والشرف الحقيق, لسانك الناطق, وفجر الإيمان الصادق, الإمام بالنص أبي عبد الله جعفر بن محمدٍ الصادق.
اللهم صلِّ على بحر العلوم المتلاطم, المطلع على أسرار العوالم, المضطهد على يد شر ظالم, قتيل الفاسق الغاشم, الإمام بالنص أبي إبراهيم موسى بن جعفرٍ الكاظم.
اللهم صلِّ على بدر الفضل الساطعة أنواره, وطود الحكم المشرق مناره, ونبع العلم الذي لا يدرك قراره, وسح الجود المتدفقة أنهاره, سيفك الملتضى, وخليفتك المرتضى, الإمام بالنص أبي الحسن الثاني علي بن موسى الرضا.
اللهم صلِّ على الشفيع لديك يوم التناد, مرشد العُبَّاد وسيد العِباد, ومبين منهج الحق والرشاد, الإمام بالنص أبي جعفرٍ الثاني محمد بن عليٍ الجواد.
اللهم صلِّ على السري الأمجد, والعالم الأوحد, ابن بجدة الفضل والسؤدد, المبتلى بعداوة الكافر الأنكد, أبي الحسن الثالث علي بن محمد.
اللهم صلِّ على صاحب البلايا والمحن, المستشهد على أيدي ذوي الأحقاد والإحن, المجتهد في إماتة البدع وإحياء السنن, الإمام بالنص أبي محمدٍ الحسن.
اللهم صلِّ على الحجة الإلهية في الأقاليم الأرضية, والآية السبحانية بين البرية, المتلحف برداء التقية, سيف الله القاطع, وفجر الحق الطالع, شريك القرآن, وواضح البرهان, الإمام بالنص مولانا المهدي بن الحسن صاحب العصر والزمان.
اللهم عجل له الفرج, وسهل له المخرج, وسد به الخلل والفرج, وأوضح به المنهج, واجعلنا من الملبين لدعوته, المسارعين إلى نصرته, المنتظرين لثورته, المنعمين في دولته، فإنك خير المسؤولين, وأوسع المعطين.
إن أبلغ ما نطق به لسان, وأخطر ما طرق مسامع الإنسان, كلام الملك الديان، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[[5].
وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات إنه هو الغفور الرحيم والبر الكريم.
[1] بحار الأنوار - ج45 - ص313 - العلامة المجلسي
[2] سورة القارعة
[3] سورة فصلت:31- 32
[4] الأمالي- ص192- 193-الشيخ الصدوق
[5] سورة النحل:90
معلومات إضافية
- التاريخ الهجري: 6 محرم 1417
