التوبة
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين, والسلام عليكم أيها الإخوة المؤمنون جميعاً ورحمة الله وبركاته.
التوبة في اللغة هي العود والرجوع. والمقصود بها في الشرع هو الرجوع إلى الله تعالى والعودة إليه, فإن الإنسان وهو يعيش في هذه الأرض عندما يولد صغيرًا أول ما يترعرع في نفسه هو أمور الغريزة؛ سواء الشهوات أو النزعات أو المطالبات من حين هو طفل، ولا يتجه عنده أصل الرشد وأصل العقل إلا بعد ردح من السنين, فتكون تلك الحياة البهيمية التي يعيشها الطفل من حين أن يفتح نظره على الدنيا قد ترسخت في نفسه بحيث ليس من السهولة جداً أن يتخلص من آثارها ومن تدخلاتها في سائر شؤون سلوكه, لذلك فتح الله تعالى له باب الرجوع من هذا الطريق إلى طريق الله سبحانه وتعالى.
فالصحيح أن يقال طريق العودة من طريق الشيطان الذي يحاول جهده في استغلال تلك الرواسب التي نمت وترعرعت في طفولة الإنسان وأن يدفعه إلى التشبث بها، بل والزيادة فيها إلى الخروج عن الحد المعتدل الذي أباحه الله، هذا الرجوع وهذه العودة هو معنى التوبة.
والتوبة تنسب إلى العبد, فيقال: تاب زيد بمعنى رجع، وعاد، وتنسب إلى الله فيقال: تاب الله على زيد؛ ومعنى ذلك أن ألهمه العودة إليه وقبل منه هذه العودة.
وحقيقة التوبة تتكون من عناصر ثلاثة:
العنصر الأول: هو العلم بأن الذنوب من المهلكات للإنسان.
والعنصر الثاني: - الذي هو في الحقيقة ما هو إلا نتيجة للعنصر الأول- هو الندم على استعمال ما هو مضر ومهلك؛ أي ارتكاب الذنب.
ومن العنصر الثاني يتولد عنصر جديد هو الإرادة الجازمة على عدم المواصلة أو العودة إلى هذا الطريق المهلك.
فإذاً عناصر التوبة هي العلم والندم والإرادة الجازمة على عدم معاودة الذنب. وفي الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله قال: "الندم توبة"[1]. وإطلاق التوبة على الندم بذاته باعتباره لا يحصل إلا نتيجة للعامل الأول، ولأنه مع حصوله تحصل منه الإرادة الجازمة على عدم العودة اضطراراً, فإن من قال له الطبيب مثلاً إن هذا المأكل أو هذا المشرب سام للأجساد ولكنه أقدم بسبب جهله على شرب ذلك الشيئ أو أكل ذلك المطعوم ثم حصل له العلم بحقيقة الحال فلا إشكال بأنه يندم على ما فعله في نفسه في حق نفسه من أكل السام أو شرب السام, وبالتالي لا بد أن تحصل عند هذا الإنسان إرادة على عدم مخالفة الطبيب مرة أخرى.
ولكن ما هو المقصود بالعلم؟
المقصود بالعلم هنا هو العلم على نحو التيقن؛ يعني إذا حصل اليقين الجازم الذي لا يعتريه الشك في ضرر الذنب وإهلاكه للإنسان بحيث وصل إلى مرتبة الإيمان؛ لأن الذنوب مبعدة له عن الله سبحانه وتعالى وحاجبة له عن القرب منه، فهذا العلم في حقيقته هو الإيمان بمضرة الذنب وإبعاده عن الله تعالى، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وآله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"[2]، الذنب المقصود منه أن الزاني لا يزني وهو يؤمن بالله, فإن الإيمان بالله والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر ليس على نحو التضاد والتناقض مع ارتكاب المعاصي.
ولإعطاء بعض التفصيل عن هذه الجملة نقول إن العلم أو الإيمان يتم على مرحلتين:
المرحلة الأولى: هي ما يطلق عليه عامةً [علم المكاشفة], وهو العلم الذي يكون فيه انكشاف في القلب، ويكون مطلوباً بذاته لا لغرض آخر وراءه, وهذا أرقاه شهادة ألا إله إلا الله بحقيقتها، والعلم بتفصيلاتها والإيمان بكتب الله ورسله وملائكته. ولا شك أن الإنسان في بداية أمره لا يعرف من معاني هذه الألفاظ إلا شيئاً قليلاً, أو ربما لا تزيد تلك المعرفة على المعنى اللغوي, فمثلاً معنى الملائكة ماهو معنى الملائكة؟ من منا يعرف حقيقة الملائكة؟ ولكن بعد حصول هذا العلم وتلقيه يحصل انكشاف في القلب لحقيقة التوحيد، وحقيقة الجنة، وحقيقة النار، وحقيقة الملائكة والكتب وغير ذلك, ومن أجل ذلك يطلق على هذا العلم الذي هو في الحقيقة عين الاعتقاد بعلم المكاشفة.
العلم الثاني: وهو الذي يتفرع من هذا العلم ويدخل أيضاً في حقيقة الإيمان، ويدخل في حقيقة المعرفة؛ هو ما يراد من أجل التوصل به إلى شيء آخر لا أنه يطلب لذاته, ويطلق عليه في مصطلح القوم بعلم المعاملة، أي أنه يطلب ليتعامل به للوصول إلى هدف آخر، وذلك كمعرفة أحكام الوضوء وأحكام الصلاة أو أحكام الحج أو غير ذلك؛ إذ مجرد معرفة أحكام الوضوء لا يستفيد منه الإنسان إذا كان لا يريد أن يتوضأ, ومجرد معرفة أحكام الصلاة حتى لو كانت معرفتها عن طريق الأدلة والاستنباط وإلى حد الفقاهة, بل إلى حد الدرجات العليا من الفقاهة؛ لا يفيد الإنسان شيئاً إذا لم يكن غرضه هو العمل بها، لذلك فإن هذا النوع من العلم يسمى علم المعاملة. ومعرفة حقيقة الذنب ومعرفة مضرة الذنب ومعرفة تأثير الذنب في إبعاد الإنسان عن مقام القرب من الله تعالى, هذا العلم هو من حقيقة الإيمان، ولكنه هو من النوع الثاني، فمن لا يبالي في القرب من الله أو البعد منه لا تفيده معرفة مضرة الذنب وتأثيرها على القرب من الله؛ كمن لا يريد أن يصلي لا يفيده معرفة أحكام الصلاة وتفصيلاتها، فهذا العلم عندما يرتكب المؤمن الذنب فإنه حين ارتكابه ليس مؤمناً بضرر الذنب، ولو كان يؤمن بضرر الذنب وأنه يبعده عن الله سبحانه وتعالى ما ارتكبه. هذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن", لا بمعنى أنه لا يؤمن بالله ولكن بمعنى أنه لا يؤمن بضرر الزنا على آخرته, وربما بسبب أو بآخر تبرر له شهوته ذلك، مثلاً بأن يقول: إن الله غفور رحيم, وبأن رحمة الله وسعت كل شيء, على أي حال يفقد الإيمان في تلك اللحظة بضرر هذا الذنب على آخرته فيقدم عليه, وكل ذنب في الحقيقة يقدم عليه الإنسان في حين إقدامه لا يكون ملتفتاً إلى ضرره عليه، وهذا تماماً كالمريض الذي يتناول السم بعد نهي الطبيب له, ليس المعنى أنه لا يؤمن بوجود الطبيب, وليس بمعنى أنه لا يؤمن بنصح الطبيب, ولكن يحصل عنده الشك في نفس كلام الطبيب في مضرة الأصل, كما لو ذهب إنسان واشترى دواءً للإسهال وشربه ولكن بقي عنده شك هل أنه فعلاً يسبب له الإسهال أم لا يسبب, هذا الشك ليس بسبب الشك في الطبيب أو بنصحه في وصف الدواء، ولا الشك أيضاً في أصل الدواء، ولكن يأتيه الشك مثلاً في إمكانية تركيبة الدواء أو طريقة جمع عناصره, أو تكوينه الكيميائي وغير ذلك، فلا يحصل عنده التأكد واليقين بأنه سوف يوصله إلى الإسهال, إلا إذا حصل له بالفعل, وكذلك من يرتكب - حين يرتكب - الذنب ليس معنى إقدامه على الذنب أنه لا يؤمن بالله، ولكن يحصل عنده شك في تأثير الذنب على آخرته وعلى إبعاده عن الله سبحانه وتعالى.
ولكن ما هو الذنب؟
حينما نقول إن التوبة هي الرجوع إلى الله عن الذنوب, وقلنا إن أول عنصر من عناصرها هو العلم، والعلم قلنا إنما هو العلم اليقيني بضرر الذنب على آخرة الإنسان, فلا بد إذاً أن يعرف الإنسان ما هو الذنب حتى يدرك مدى تأثيره على آخرته.
والذنب في حقيقته ليس إلا مخالفة أمر المولى, فلا يقصد بالذنب أكثر من مخالفة الإنسان لأمر مولاه؛ سواء في حالة الفعل أو حالة الترك, أو بالأحرى هي صفة تلحق الإنسان أو حالة نفسانية تلحق الإنسان بسبب قيامه بفعل أو بترك يعتقد فيه أنه مخالف لما يريده المولى منه, فعندما يدرك الإنسان أنه في مقام المخالفة يدرك أنه في مقام العصيان, ولا إشكال بأنه لا يتعقل أن المولى يقرب العصاة إليه ويدنيهم, خذ إليك مثلا الموالي العاديين سواء كانوا من الموالي الذين لهم حق المولوية أو الموالي الذين ليس لهم حق المولوية ولكن يفترضون لأنفسهم المولوية, يعني الموالي غير الله مطلقاً سواء كانت لهم حق المولوية كالنبي أو الإمام المعصوم أو الأب أو الجد أو من ليست له حق المولوية ولكن يفترض لنفسه حق المولوية كالزعيم والرئيس والملك وغير ذلك, هل أحد منهم يقرب إليه ويدني إليه من هو مجد في مخالفة أوامره ومعصيته في كل ما يريد من فعل أو ترك؟ وهل يتصور أحد منا بأنه إذا أمعن في خلاف والده بحيث يترك ما أمر به ويرتكب ما أمر بتركه, هل يتصور هذا الابن أن أباه يقربه إليه ويدنيه؟ أو يتصور أن ملكاً أو حاكماً أو رئيساً أو حتى مديراً في مدرسة أو دائرة أو غير ذلك يكون تحت إمرته شخص مجد في أن لا يفعل ما يريد هذا المدير أن يفعل، وأن يرتكب معظم ما لا يريد هذا المديرُ أحداً أن يرتكبه ثم يتصور أن هذا المدير يقربه إليه، ويوليه وظائفه، ويدنيه، ويجعله المحبب والمقرب إليه؟
فإذاً عندما يدرك الإنسان أنه في مقام العصيان فلا شك أنه يدرك أنه في مقام البعد، ولا يمكنه أن يتصور إمكانية القرب مع بقائه على تلك الحال, فإذا أدرك الإنسان إدراكاً يقينياً لا يعتريه الشك في ضرر الذنب عليه بالنسبة إلى آخرته، ووجد نفسه ليس في الطريق المؤدي إلى غايته التي يريدها من القرب من المولى فلا شك أنه يصيبه الندم الشديد في قلبه, ويذوب حسرة, فإذا حصل له هذا الندم فإنه تتولد عنده إرادة جازمة للرجوع عن الطريق الذي هو فيه، وعدم المعاودة لارتكاب المخالفة والعصيان, وهذه هي حقيقة التوبة, وإطلاق النبي صلى الله عليه وآله التوبة على الندم باعتباره نتيجة للمعرفة، وسبباً للرجوع وعدم المعاودة, والحقيقة أن هذه العناصر الثلاثة كلها متولدة بعضها عن بعض وليست بمعنى أنها عناصر متباينة ثم جمع بينها, بل إن الندم نتيجة للمعرفة والإرادة بعدم ارتكاب الذنب مرة أخرى لا يكون إلا إذا حصل له الندم في نفسه, والعياذ بالله لو أبلس هذا الإنسان مع إدراكه بأنه في موقف العصيان وأنه في موقف المخالفة، وأن هذا الموقف يؤاخذ عليه في آخرته لكنه فيه قد أبلس وأصبح لا يبالي بالنتيجة الأخروية, أما لوجود اليأس والقنوط وأما للاغترار والغرور, فهذا الإنسان مجرد إدراكه بأنه في مقام العصيان لا يجعله يتوب, ونضرب مثلاً باثنين أحدهما آدم والثاني هو الشيطان الرجيم, فأبونا آدم صلوات الله وسلامه عليه عندما أدرك أنه أخطأ بمخالفة الأولوية - وسوف نتعرض إلى استغفار الأنبياء وتوبتهم بعد قليل - أصابه الندم الشديد فقبل الله ندمه وتوبته وتاب عليه, والشيطان وقد أدرك أنه في مقام المخالفة والعصيان لكن لم يصبه الندم, وإلا فقد كان باب التوبة مفتوحاً للجميع, فمقتضى قواعد العدل الإلهي أن لا يفتح الباب لهذا ويغلقه عن ذاك. ولذلك قال سبحانه وتعالى: ]اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[[3]. ولا شك أن هذه الآية بعمومها وإطلاقها تشمل إبليس كما تشمل آدم عليه السلام وحواء, وقد تاب آدم عليه السلام وحواء وأبلس إبليس ورفض أن يتوب, لماذا؟ لأنه يئس من رحمة الله, وقنط من رَوْح الله وعفوه. بل اشتدّ به طغيانه وتجبره بحيث أقسم أن يحتنك ذرية آدم عليه السلام حيث فاته آدم عليه السلام بسبب توبته, فإبليس إذا كان يعرف أنه في مقام المعصية ومقام المخالفة, ولكن بسبب أنه أصبح يائساً من الرجوع ومن العودة إلى الله ومن القرب من الله, لم يبال بالمصير الأخروي، ولم يحصل عنده ندم على المعصية وعلى المخالفة, وأصر على البقاء في هذا المقام، فصار بذلك عدواً لله, وآدم عليه السلام لما أدرك مقام المخالفة ولكن لم يحصل عنده اليأس والقنوط من رحمة الله وعزّ عليه أن لا يكون قريباً من المولى سبحانه وتعالى أصابه الندم فنزع عن الخطأ وصمم العزم على عدم المعاودة.
فإذاً ما لم يحصل الندم لا تتولد الإرادة والعزم على عدم المعاودة, ولذلك صار هذا العمل أو هذا العنصر هو العنصر الرئيس في التوبة وإن كان في الحقيقة فرعاً عن العلم والمعرفة.
ولكن كما قلنا لما كان هذا العلم وهذه المعرفة إنما هو من علم المعاملة, أي من العلوم العملية التي تراد لغيرها, ما لم تحصل منها الثمرة فوجودها وعدمها سيان, وما ثمرتها إلا الندم وثمرة الندم هي الإرادة.
هذه الذنوب كيف تحصل للإنسان؟ وما هي أنواعها؟
قسموا الذنوب إلى تقسيمات مختلفة, فتارة قسموها بالنسبة إلى صفات الإنسان, فقالوا إن الذنوب تكون ذنوباً ربوبية وتكون ذنوباً شيطانية وتكون ذنوباً بهيمية وتكون ذنوباً سبعية, في الحقيقة هذا التقسيم فلسفي أكثر منه واقعياً.
والمقصود بهذا التقسيم أن الله سبحانه وتعالى خلق الملائكة عقولاً مجردة لا يعتريها شيب من الأخلاق, ولذلك فهي لا تعصي, وخلق الشياطين والأباليس من مركب واحد هو مركب النار فصارت بطبيعتها نزاعة إلى المعصية عاتية عن الطاعة, وخلق البهائم لا تدرك في الحياة إلا غرائزها، وما يقيم حياتها من المأكل والمشرب وما يحفظ تناسلها من الجنس, وخلق السباع ضارية مؤذية قتّالة, وخلق الإنسان وجعل فيه كل هذه التركيبات, إضافة إلى ذلك فإنه سبحانه نفخ فيه من روحه فصار أيضاً بسبب ذلك له صفات ربانية أو صفات ربوبية, فمن الصفات الربوبية يتولد حب العزّ وحب الزعامة وحب القدرة وحب المدح وحب الجاه وحب السيطرة حتى يصل إلى ما وصل إليه فرعون فيقول أنا ربكم الأعلى.
ومن الصفات الشيطانية من وجود عنصر النار يتولد عند الإنسان الحقد والحسد والبغضاء والحيلة وغير ذلك من الأمور التي يستعملها الشيطان.
ومن كونه أحد الحيوانات وفيه مركب البهيمية تكون عنده سائر الغرائز والشهوات الحيوانية البهيمية.
ومن كونه أيضاً فيه بعض الأخلاق السبعية تحصل عنده عرائز الغضب والثوران والهيجان والتهجم على الأنفس والأموال وغير ذلك, كما أنه من الغرائز البهيمية يحصل الزنا واللواط وأمثاله والسرقات وغير ذلك من هذه الأمور.
فهذا تقسيم في الحقيقة لهذه الذنوب بناءً على هذه الصفات, ولكن في مقام العمل لا توجد مثلا ً جدوى مهمة كبيرة تنبني على هذا التقسيم للذنب, فإن الذنوب أي سببها ومصدرها إنما هو بسبب تأثيرها على القرب من الله سبحانه وتعالى، وعلاجها إنما هو التوبة. نعم بعض من يذهب إلى معنى الرياضة ومعنى الاعتزال ومعنى التصوف يستعمل مثل هذا الأسلوب بدعوى المجاهدة، والحقيقة أن لفظ المجاهدة في الشريعة إنما يعني جهاد النفس وكسر شوكتها في أي طريق تريد أن تخالف الله سبحانه وتعالى فيه, ولو كانت التوبة ومعرفة الذنوب تتوقف على معرفة هذه الفلسفة وهذا التقسيم لكان حصول التوبة من الإنسان العادي أمراً عسيراً, وعندئذ لا تشمله رحمة الله سبحانه وتعالى الذي فتح باب الرحمة لكل عباده كبيرهم وصغيرهم عالمهم وجاهلهم.
هناك أيضاً تقسيم ثانٍ, هي الذنوب بالنسبةإلى من تكون وفي حق من تقع بين المذنب وغيره, فقسموها إلى ذنوب بين العبد وربه, وذنوب تحصل بين العبد وسائر خلق الله, وبذلك تكون قسمين:
ومن الذنوب التي تكون بين العبد وربه ترك الصلاة مثلا والصيام والحج وأمثال ذلك, مما افترضه الله سبحانه وتعالى على العبد, أو حرم على العبد فخالف إلى فعل ما حرم أو ترك ما أوجب.
والذنوب التي لها تعلق بالعباد كثيرة, منها عدم إخراج الحقوق الشرعية لمستحقيها, كأكل الزكاة والخمس والغصب والسرقة والخيانة واللواط والزنا، وأمثال ذلك من هذه الذنوب، وكذلك أذية المسلمين والمؤمنين, كغيبتهم أو ضربهم أوقطع أرجلهم أو أيديهم أو قتلهم أو إهانتهم أو غير ذلك, كل هذه الذنوب تكون متعلقة بين المذنب وبين عباد الله.
ولا شك أن هذا تقسيم واقعي ومعرفته لها أثر كبير في التوبة, فإن التوبة مثلاً من الذنب الذي هو بين العبد وربه, يكفي فيه الندم وتلافي ما فات إن كان يمكن قضاؤه, كقضاء الصلاة أو الصوم أو الذهاب إلى الحج, والذنب الذي له تعلق بعباد الله؛ حتى تحصل له منه التوبة الحقيقية عليه أن يتلافاه بأن يستبرئ ذمة من سبب له ذلك الضرر أو الظلم بسبب ذنبه مثلاً, فإنه إذا لم يستبرئ المظلوم فلا تحصل منه التوبة الحقيقية أو لا يحصل له النزوع الحقيقي إلى الله سبحانه وتعالى, باعتبار أن هذا الذنب له تعلق بطرف ثالث هو أحد خلق الله سبحانه وتعالى, فهذا التقسيم لا إشكال أنه تقسيم واقعي وله تأثير كبير في مجرى التوبة.
هناك تقسيم ثالث بموجب حديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الذنوب ثلاثة: ذنب مغفور, وذنب غير متروك, وذنب نحن لصاحبه كما هو لنفسه, نرجو له المغفرة ونخشى عليه العذاب. فقيل له يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وما هو الذنب المغفور؟ وما هو الذنب غير المتروك؟ وما هو الذنب الذي ترجون لصاحبه المغفرة وتخشون عليه العذاب؟ قال أما الذنب المغفور فذنب يكون بينه وبين الله وقد عاقبه الله عليه في الدنيا, فالله أكرم من أن يعاقب عبده مرتين, وأما الذنب غير المتروك فهو ظلمه لعباد الله فإنه سبحانه إذا جاء يوم القيامة وبرز لخلقه أقسم على نفسه وقال وعزتي وجلالي لا يفوتني ظلم ظالم, فيقتص من الظالم للمظلوم, ومن القرناء للجماء حتى الكف بالكف والمسحة بالكف والنطحة وغير ذلك, وبعد ذلك يبعثهم للحساب, وأما الذنب الذي نرجو لصاحبه المغفرة ونخشى عليه العذاب فهو ذنب يكون بينه وبين الله سبحانه وتعالى وقد تاب منه وندم، عليه فإن لله سبحانه وتعالى أن يعفو عنه ويرحمه وله أن يأخذ بحقه ويعذبه".
وهذا التقسيم الذي ورد في الرواية مطابق للتقسيم الثاني, وإن كان التقسيم الثاني يتكلم في مقام التوبة, يعني له تعلق بخصوص التوبة وهذا له تعلق بتقسيم الذنوب جميعاً.
والذنوب من جهة ثالثة تنقسم إلى كبيرة وصغيرة, أو الكبائر والصغائر, وللعلماء خلاف كبير في ذلك, فبعض العلماء نفى وجود الصغيرة, واعتبر كل ذنب يقدم عليه الإنسان بتعمد فهو كبيرة.
ولا شك أن هذا القول تنفيه الآية الكريمة: ]إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ[[4], فلو لم تكن الذنوب كبيرة وصغيرة لما صار لتخصيص حكم الكبيرة معنى, وأن ما نهي عنه فيه الصغير وفيه الكبير.
ولكن كيف نعرف ما هو الذنب الكبير وما هو الذنب الصغير؟
فمن العلماء من يقول إن الكبائر سبع, ومنهم من يقول سبعين, ومنهم من يوصلها إلى عدد جد كبير, والحقيقة أنه ليس لنا مجال في معرفة عدد الكبائر, فحتى نعرف عدد الكبائر بالتأكيد وعلى نحو الضبط والتفصيل نحتاج إلى تصريح من صاحب الشرع بأن يقول عنيت بالكبيرة مثلاً سبعاً أو سبعين أو مائة وهي كذا وكذا وكذا..., وأما مع ورودها في روايات متفرقة تارة سبع وتارة عشر وتارة ثلاث وتارة أكثر أو أقل، وفي هذه الرواية تذكر مجموعة من الذنوب وفي رواية تذكر مجموعة من الذنوب الأخرى, فإن هذا لا يجعلنا نعرف على نحو التأكيد عدد الكبائر بالضبط؛ لأن العدد لا يمنع غيره، ومثلاً إذا قال النبي صلى الله عليه وآله أو قال أحد الأئمة عليهم السلام بأن الكبائر سبع، وذكر مجموعة ثم قال في مجلس آخر أو قال إمام آخر أنها ثلاث وذكر مجموعة أخرى, ولا تنافي بين هذا العدد وذاك, بل يمكن جمعه معه, وعندئذ جمع العددين لا يكون حاصراً عن الزيادة, فقد يحتمل أن توجد زيادة.
فمعرفة الكبائر من الذنوب إذاً على نحو التفصيل غير ممكن ما دام لم يرد بيان مفصلٌ بتحديدها من صاحب الشرع الأقدس, ولكن نحن نعرف أكبر الكبائر ولا نعرف أصغر الصغائر, وأكبر الكبائر كما وردت به الروايات المتضافرة بين كافة المسلمين سبع وهي: الشرك بالله سبحانه وتعالى, وقتل النفس, وقذف المحصنة, وأكل مال اليتيم, والزنا, واللواط, والتعرب بعد الهجرة.
و باعتبار هذه الرواية وكونها رواية مستفيضة بين كافة المسلمين نقول إن ما ورد فيها أكبر الكبائر، لا بمعنى أن ما لم يذكر فيها ليس من الكبائر، ولكن يمكن أن يوجد لنا طريق به نعرف معنى الكبيرة ومعنى الصغيرة، فإذا عرفنا معنى الكبيرة ومعنى الصغيرة استطعنا أن نميز في الذنوب بين ما يكون كبيراً وبين ما يكون صغيراً، ولا إشكال أن كل ما توعد الله عليه النار فهو كبيرة، ولا إشكال أن كل ما ورد النهي عنه في القرآن، بخصوصه فهو كبيرة، ولكن ليس كل الكبائر مذكورة في القرآن وليس كل الكبائر ورد فيها ذكر يتوعد بالنار مثلاً.
فإذن ما هو المقصود بالكبائر؟
الواقع أن الهدف الرئيس لبعثة الأنبياء وإنزال الكتب وتشريع الشرائع بل الغرض الرئيس من خلق السماوات والأرض وخلق الجن والإنس إنما هو الحياة الأخرى، ]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[[5]، ولكن الحياة الأخرى لا تحصل فيها السعادة ولا يحصل فيها إلا عن طريق أن يعرف العبد ربه بالربوبية، ويعرف نفسه بالعبودية، فتوقفت الحياة الأخرى على العلم، فاحتاج الأمر إلى أن يوجد الإنسان في حياة قبل الحياة الأخرى، فوجدت الحياة الدنيا لتكون طريقاً ومعبراً وممهداً للحياة الأخرى، ولذلك ورد في الحديث "الدنيا مزرعة الآخرة"، فصارت الحياة الأخرى لا يمكن تحقيقها إلا بالحياة الدنيا، والحياة الدنيا تتوقف على شيئين: سلامة الأبدان, وسلامة الأموال. لأنه إذا لم تكن الأبدان سليمة لا يمكنها أن تؤدي العبادات المطلوبة منها, ولا أن تصل إلى المعرفة الحقيقية المرادة بها، فلا بد أن تكون الأبدان سليمة. ولا تكون الأبدان سليمة إلا بتوافر أسباب السلامة لها من المأكل والمشرب والمسكن وغير ذلك مما يدفع عنها سائر الآفات المضرة ويقيمها ويجعلها قادرةً على الحركة، وهذا لا يكون إلا بالمال، فصار للمال دخل وعلاقة بالحياة الأخرى.
فإذاً هذه الذنوب إذا أردنا أن ننظر إليها نجد أن منها ما يناقض الهدف الرئيس أو الهدف المقصود رأساً، يعني منها ما يناقض الهدف الأخروي رأساً، كالكفر بالله سبحانه وتعالى والشرك والكفر بالأنبياء وعدم التصديق بالكفر والشرائع، وكذلك إيجاد البدع وإيجاد الأديان الفاسدة والباطلة والمذاهب الكاسدة والأفكار المنحرفة والدعوة إليها، كل ذلك يناقض الهدف الأساسي من خلق الإنسان رأساً، فلا شك أن كل ما يكون من هذا القبيل يكون أكبر الكبائر، ولذلك فالكفر بالله أكبر الكبائر.
وتارة أخرى لا تضاد هذه الذنوب الهدف الرئيس مباشرة، وإنما تضاد الهدف الرئيس بطريق آخر، كما لو كان الذنب يتعلق بأرواح عباد الله وتعطيل أجسادهم كقتل الإنسان وقطع أطرافه كيديه أو رجليه أو ضربه أو غير ذلك مما له تأثير على سلامة بدنه، فهذا لا يناقض الإيمان بالله رأساً، ولا يناقض الإيمان باليوم الآخر رأساً ولكن يناقضه بطريقة غير مباشرة, وكان عظيماً باعتباره مانعاً وحاجباً من القرب إلى الله سبحانه وتعالى ولو بطريق غير مباشر.
وأما الأموال فلا شك أنها تأتي في المرتبة الثالثة - بناءً على هذا التفصيل - ومن أجل ذلك لا يكون مثلاً أكلُ شيء بالغصب كقتل مؤمن, فلا يعقل أن نجعل اغتصاب ملك المؤمن يعادل قتل المؤمن، فهي وإن كانت كبيرة فلا شك أن قتل النفس أكبر من اغتصاب مال الإنسان أو منعه من رزقه أو غير ذلك، بالإضافة إلى أن هذه الأموال يمكن أن تتلافى أما بالتغريم وإما بالأخذ وإما بالاسترجاع أو غير ذلك، بخلاف الأشياء التي تقع على جسم الإنسان أو على روحه فلا يمكن تلافيها، لإنه بعد إزهاق روح الإنسان بأي شيء يتلافى ذلك؟!! أو بعد تعطيل جارحة من جوارحه بأي شيء يتلافى؟!!
وعلى الرغم من ذلك فلا بد أن نقول أن في هذا التفصيل الذي قلناه نقص، وهذا النقص نضرب مثلاً له بالربا، فإذا جئنا مثلاً إلى الربا، - لو كنا نسير بالقياس – فإن مقتضى القياس أن يكون شرب الخمر أشد من الربا، ومقتضى القياس أن الزنى أشد من الربا، ومقتضى القياس أن قتل النفس أشد من الربا، ولكن بموجب نصوص الشريعة فإن الربا أشد من الجميع، يقول سبحانه وتعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[[6], إلى أن يقول: ]فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ[[7]. فإذاً ما جعل الله سبحانه وتعالى مرتكب كبيرة من الكبائر في مقام محاربة إلا المرابي, ولذلك ورد في الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله: "إن أكل درهم واحد من الربا أشدّ عند الله من سبعين زنية بذات محرم بين الركن والمقام -أو عند الكعبة في رواية أخرى-" مع أن هذا الذنب في الحقيقة يتعلق بالأموال ولا يتعلق بالأبدان مما قلنا عنه أنه في المقام الأول في قضية الحفظ بين الشرائع والأديان.
فإذاً لا يمكن للإنسان بعقله أن يصيب أسرار الشرع في الحقيقة, ووصوله إلى أسرار الشرع وعلله وأسباب تشريعاته وتنظيماته بعقله أمر بعيد.
على أي حال كل ما كان هذا الذنب له تعلق بالحجب عن اليوم الآخر يكون كبيرة, نعم هناك أمور لا يكاد البشر- بسبب ما فطروا عليه من الحيوانية- ينفكون عنها, كأن يتكلم فيكذب كذبة صغيرة, أو يعد إنساناً بالمجيء ثم لا يأتي, أو يغتاظ على ابنه فيضربه من دون أن يستحق هذا الابن عقاباً أو أمثال لذلك, أو سوء خلق بينه وبين أخيه في أمر من الأمور, هذه أمور لا يكاد الناس يتمكنون من الانفكاك عنها, لذلك سميت بالصغائر, ولكن هذه الصغائر لا ينبغي الاستهانة بها. يقول الصادق عليه السلام: "إياكم والمحقرات من الذنوب فإنها لا تغفر, فقيل يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وكيف لا تغفر المحقرات؟ قال أن يعملها الرجل فيقول إن لم تكن عليّ إلا هذه فطوبى لي". إذا استصغرها واستهان بها انقلبت كبيرة, ولعل من هذه الرواية أخذ قوله من قال إن كل ذنب مع الإصرار كبير, أو أنه لا يوجد فرق بين الصغيرة والكبيرة, على أي حال فإن هذه الأمور التي لا يتمكن الناس بسبب ما فطروا عليه من الانفكاك عنها جعل الله لها كفّارات خاصة, فالصلاة كفّارة لما قبلها, فصلاة الصبح مثلا كفّارة لما عمل بين صلاة العشاء وصلاة الصبح, وصلاة الظهر كفّارة لما عمل من الصغائر بين فرض الصبح وفرض الظهر وهكذا, والجمعة إلى الجمعة كفّارة, يعني صلاة الجمعة كفّارة لما وقع من الذنوب بينها وبين الجمعة السابقة عليها, ورمضان إلى رمضان كفّارة, فهذه الذنوب الصغائر جعل الله سبحانه وتعالى لها مكفّرات هي هذه العبادات اليومية أو الأسبوعية أو السنوية, ولكن بشرط التوبة عنها والعزم على عدم العود إليها؛ وإن كان لا يتمكن بحسب فطرته وحسب طبيعته ألا يعود إليها ولكن عليه دائماً أن ينوي في نفسه أن يأسف على ما حصل منه، وأن يعزم على أن لا يعود, هذا بالنسبة إلى الصغائر.
وأما بالنسبة إلى الكبائر فقلنا: إن الكبيرة إنما يحصل التوبة منها بالندم عليها, الندم الشديد حتى يزيل الإنسان أثرها من قلبه عليه بإكثار الطاعات وبإكثار الحسنات, لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ]إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ[[8]. ويقول النبي صلى الله عليه وآله: "أتبع الحسنة السيئة تمحها". وهذا الأمر الإلهي له حكمته الكبرى, وذلك لأن الإنسان يحصل على قلبه رين مما يباشر من الذنوب وذلك كالمرآة التي تكون في مكان يتصاعد فيه البخار فلا تظهر فيها الصور, فمجرد إيقاف مصدر البخار لا يجعل الصورة منطبعة عليها, بل لا بد من تنظيفها وتجفيفها حتى تعود المرآة قابلة لعكس الصورة, وكذلك قلب الإنسان فإنه بسبب مزاولة الذنوب يحصل عليه رين, وتحصل عليه ظلمة, ومجرد التوقف عن الذنوب يوقف زيادة تلك الظلمة, ولا بد أن يشتغل الإنسان في صقل هذا القلب, في صقل مرآة هذا القلب وإعادته لتلقلي الأنوار الإلهية والفيوضات الرحمانية, وذلك عن طريق إكثار الطاعات وعمل الحسنات, فهو كالثوب الذي يصيبه الأوساخ, فمجرد إخراجه من موضع الوسخ لا ينظفه, فلا بد من غسله بالماء والصابون مراراً وتكراراً حتى يعود إليه نقاؤه وبياضه, وكذلك القلب, وهذا الطريق الوحيد في الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى والعودة إليه مع إعادة الطهارة الأصلية للإنسان. وإعادة النظافة هي أن يواظب على الطاعات ويتجنب بقدر إمكانه أن يقع أو يتورط في معاصي جديدة.
ولكن على أي حال ومهما كانت الذنوب بين الإنسان وربه ولو أنها إلى عنان السماء لا ينبغي له أن ييأس أو أن يقنط من رحمة الله سبحانه وتعالى, يقول الله سبحانه وتعالى: ]قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ[[9]. ويقول النبي صلى الله عليه وآله: "لو كانت ذنوبكم من الأرض إلى عنان السماء فتبتم غفرها الله لكم". فإذاً لا شك أن التوبة هو باب الرحمة الذي فتحه الله لخلقه إرغاماً لأنف عدوه, والتوبة واجبة على كل الناس سواء كان نبياً أو إماماً أو عالما أو إنسان عادياً, كل الناس تجب عليهم التوبة في كل حين من الأحيان وفي كل حال من الأحوال.
ولا يمكننا التفصيل في هذا الموجز ولكن نقول إن وجوب التوبة عام من جميع الوجوه، وفي جميع الأحيان، وعلى جميع الناس, وأن واجب الإنسان الأول هو التوبة, وهذه التوبة متى ما وجدت فلا شك أن تكون مقبولة, فلا يعقل أن توجد التوبة ولا تقبل من عند الله سبحانه وتعالى, بعضهم يشكك فيقول: كون التوبة صحيحة شيء, وكونها مقبولة شيء آخر, يقيس التوبة على الصلاة والصيام أو غير ذلك, فقد يكون صحيحاً مسقطاً للإعادة أو القضاء ولكن لا يكون مقبولاً.
إن التوبة تختلف عن هذه العبادات البدنية, فلا يعقل أن توجد ولا تكون مقبولة من الله سبحانه وتعالى, ولنا دليل واحد بالإضافة إلى قضية أن الفطرة في الإنسان تقضي بذلك وإلا يئس من رحمة الله الذي هو منهيٌ عنه, لنا دليل واحد موجود في كل نصوص الشرع وهو أنه سبحانه وتعالى هو الذي طلب من عباده أن يتوبوا؛ ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحا[[10]. وحينما نأتي إلى القابل والطالب يعني قد يقبل الإنسان شيئا ولكنه لم يطلبه ولكن لا يعقل أن يطلب الإنسان شيئا ولا يقبله, فما دام الله سبحانه وتعالى هو الذي طلب التوبة من عباده, فلا بد أن يكون قابلاً لتلك التوبة عند حصولها, ولا يعقل أن توجد التوبة ولا تكون مقبولة منه سبحانه وتعالى, وإلا لتخلف الغرض من فتح بابها لبني الإنسان عموماً, نعم شيء واحد لا تقبل فيه التوبة ظاهراً ولكنها تقبل باطناً, وهو الارتداد عن الفطرة والعياذ بالله, فلو ارتد الإنسان عن فطرته, وألحد بالله بعد أن ولد من أبوين مسلمين أو كفر بالنبي أو القرآن أو كذب بالصلاة أو غير ذلك, هذا يقال له مرتد فطري, والمرتد الفطري يقول العلماء إنه لا تقبل توبته, وهذا ليس على الإطلاق؛ يعني في الظاهر وفي الحياة الدنيا، ولا يقبل المسلمون توبته لأن حكمه في الشريعة الإسلامية أن يقتل, ولكن باطنا – بينه وبين الله– تقبل توبته, فهناك فرق بين الحكم الوضعي الظاهري في الحياة الدنيا وبين الحكم التكليفي في الحياة الأخرى, الحكم الوضعي بالنسبة لهذا الإنسان أن الحاكم الشرعي يحكم عليه بالقتل، ويحكم بأن زوجته قد بانت منه، ويقسم تركته حتى لو لم يتمكن من قتله, ولكن لا يقال إن الله لا يقبل توبته إذا تاب, لا, إذا تاب وادعى التوبة وكان الحاكم الشرعي قد قدر عليه فإن الحاكم الشرعي يؤخر تنفيذ الحد ويعطيه مهلة لقضاء صلاته وصيامه وما فاته من العبادات, الحكم بأن يؤخر حده ويعطى مهلة للقضاء دليل على أن توبته مقبولة في الباطن, وإن كان حده في الدنيا القتل, وليس هو الذنب الوحيد الذي حده في الدنيا القتل, فالزاني المحصن حده في الدنيا القتل, واللائط المحصن حده في الدنيا القتل, والمفعول به حده في الدنيا القتل, وشارب الخمر بعد أن يجلد ثلاث مرات ثم عاد في المرة الرابعة حكمه القتل, وكثير من الذنوب حدها في الدنيا القتل.
إذاً كون المرتد الفطري حده في الدنيا القتل لا يعني أن توبته عند الله غير مقبولة, ولكن يعني أن المسلمين ينبغي أن لا يعتبروه تائباً ولا يقدمونه في أمورهم, فبعد أن تمضي له سنين يعيش مع الشيوعيين ويناصر الشيوعيين ويدعو للشيوعية, وإذا به بين عشية وضحاها من كبار الملتزمين الذي يدعون للإسلام ويعلمون الإسلام!! ولذلك ورد في النصوص عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام واتفق عليها الفقهاء بأن المرتد الفطري لا تقبل توبته ظاهراً وتقبل توبته باطناً.
فالتوبة إذاً لا يعقل أن توجد ولا تكون مقبولة, ولعلك تقول إن التائب قد يشك في قبول التوبة, نقول إن الشك في قبول التوبة والخوف من العقاب هو علامة التوبة, ومجرد كونه يشك في أن الله قد قبل توبته أو لم يقبلها لا يدل على أن الله لم يقبل توبته, لأن الله سبحانه ما أناط قبول توبته بجزم العبد عليه بقبولها. بل يقول الإمام الصادق عليه السلام: "من أذنب ذنباً, ثم علم بأن الله يراه وأن من حقه أن يعفو عنه إذا شاء وأن يعاقبه إذا شاء, فقد غفر الله له وإن لم يستغفره". فالخوف من العقاب, إنما هو تسليم بحق المولى في الأخذ بحقه, وهذا هو عين التوبة، وعين الإيمان, فكيف تكون حقيقة الإيمان منافية للتوبة؟
اللهم إجعلنا جميعاً من التوابين, وارض عنا وارحمنا وانصرنا على القوم الظالمين, وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
سؤال:.............
جواب: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
الذنوب بالنسبة للبشر ليست على مستوى واحد، والاستغفار أيضا ليس على مستوى واحد، ورب عمل لو أتاه الإنسان لعد ذلك الإنسان طائعا، ولعد ذلك الإنسان محسنا، ولكن هذا الفعل بالذات لو فعله إنسان آخر لعد ذلك الإنسان مسيئا؛ وذلك مثل ما ينبغي تركه بطريق الأولى، طبعا عندما يرتكب الإنسان العادي ويترك ما يكون الأولى فعله، لا يكون مذنبا ولكن لو أن معصوما ارتكب ما هو خلاف الأولى لعد الله سبحانه وتعالى عليه ذلك ذنبا، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة احتج بها من ذهب إلى عدم عصمة الأنبياء صلى الله عليه وآله مثبتا لهم الذنوب بها, وهي في الحقيقة ليست إلا من قبيل ترك ما هو أولى، وليست مخالفة للشريعة، ولذلك فالأنبياء صلى الله عليه وآله هم أشد الناس استغفارا، فإنهم صلى الله عليه وآله عندما ينشغلون في شيء من المباح عن أمر الملة أو الأمة يعدون ذلك ذنبا ويستغفرون منه، مع إنه مثلا إنما انشغل عن هذا الأمر بأمر مباح كأكل أو شرب أو حديث أو غير ذلك، فمجرد انشغاله لحظة ما عن أمر الملة التي هو في صدد نشرها أو عن الأمة التي كلف بهدايتها، يعده هو على نفسه ذنبا، فيستغفر منه، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله: "إني لأستغفر في اليوم سبعين مرة - أو برواية أخرى مائة مرة -".
الله سبحانه وتعالى لا يؤاخذ الناس كلهم على قدم المساواة في المؤاخذة، بل هم درجات، ومن ذلك ما ورد في الروايات من أن عقاب العالم الفاجر أشد من عقاب الجاهل, ويضاعف له العذاب ما لا يضاعف لشخص آخر لو ارتكب ذلك الفعل.
فاذاً التوبة وقد طوينا نحن الكلام فقلنا إن التوبة واجبة على الجميع في جميع الأحوال, وقلنا إن الوقت لا يتسع للتفصيل، فمثلا الانشغال بحديث عن ذكر الله سبحانه وتعالى نقص سواء كان لنا أو للمعصومين عليهم السلام، مجرد التوقف لحظة عن ذكر الله وعن التفكير في الله، أي مجرد توقف الفكر لحظة واحده، هو نقص، بالنسبة لنا هذا النقص قد لا نعده نقصا، وأما بالنسبة للمعصوم اذا اشتغل في شيئ مباح عن التفكير في الله لحظة واحدة تداركه بالاستغفار والتوبة، وهذا معنى استغفار الانبياء والاوصياء، لا بمعنى أن التوبة ليست عن الذنوب، طبعا الذنوب متفاوتة.
والمقصود بالتوبة قلنا الرجوع الى الل،ه والمقصود بها تحصيل القدر الممكن من الكمال بالنسبة إلى العبد، ولا شك أن الدرجه التي يطلبها المعصوم من الكمال أو الذي يصبو إليها المعصوم من الكمال غير الدرجات التي يصبو لها الإنسان العادي من الكمال، فمجرد خلاف الأولى بالنسبة للمعصوم نقص يخاف أن يحجبه عن بلوغ تلك المرتبة من الكمال، بخلاف غيره من سائر الناس، فإنه ربما ترك حتى المستحبات أو ارتكب حتى المكروهات, دون ان يخطر بذهنه ان هذا نقص شديد قد يؤخره عن كثير من المراتب الأخروية، ولذلك ورد في الحديث: "حسنات الأبرار سيئات المتقين".
سؤال: قال سبحانه وتعالى: ]وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا[[11]، ما تفسير هذه الآية الكريمة؟
جواب: المقصود بها النار، ما من أحد من بني آدم إلا يمر بالنار، حتى يفرح أهل الجنة بأنهم ليسوا من أهلها، ولأنك لو لم تعرف نقيض الشيء لا تعرف الشيء، فمن لا يعرف الأبيض، لا يظهر له سواد الأسود، ومن لم ير اللون الأسود مطلقا، لا يعرف معنى الأبيض، فإن الشيء إنما يحصل بضده. فاذا مر المؤمن بالنار طبعا لا تحرقه، نفس ورودها لا يعني العذاب فيها. ]وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً & ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً[[12].
فإذن، قضية الورود لا تعني العذاب، وإنما تعني المرور، فسواء المؤمن والكافر والمعصوم وغير المعصوم كلهم يمرون بالنار، وعندئذ يجتاز المؤمنون الى جنتهم, بعد ان عاينوا ما يجري في النار, فيحمدون الله ويشكرونه, على أنه لم يجعلهم من أهلها ومن سكنتها وممن يعذب فيها, ويعرفون مقدار الكرامة التي نالوها بسبب طاعتهم, وبسبب فيئهم ورجوعهم إلى الله سبحانه وتعالى، ويعرفون مقدار الخسارة والهلاك الذي حل بأولئك الذين خالفوهم في هذه الطريق في الحياة الدنيا.
سؤال: لماذا لا تقبل توبة المرتد الفطري ظاهريا؟
جواب: أما لماذا فكل ما أقوله لا يعني أنه من أسرار الشرع ومن ملله, وإنما هي تقريبات وتوضيحات, إذ إن المشرع أي مشرع - دع عنك مشرع الإسلام سبحانه وتعالى- حتى المشرعين الوضعيين عندما يضعون قانونا بحسب المصالح التي يريدون تحقيقها, لا يذكرون في ذيل قوانينهم العلل والأسباب التي من أجلها وضعوا هذا الحكم, مع أن حكمة هؤلاء البشر مثلنا, يحيط بها عقولنا –أي إنهم لو ذكروا عللهم وأسبابهم فلن تكون عقولنا عاجزة عن الإحاطة بحكمتهم– فإنهم بشر مثلنا وربما كان فينا من هو أعلم من واضع القانون, ومع ذلك فواضع القانون الوضعي لا يذكر العلل والأسباب التي دعت إلى وضع الحكم.
فالمشرع الحق وهو الله سبحانه وتعالى أيضا لم يذكر العلل والأسباب الحقيقية التي جعلها لأحكامه, وإنما اختار طريق التعبد والتسليم, نعم لا شك أننا نعتقد بأن الأحكام الشرعية سيقت لتحقيق مصالح ودفع مفاسد عن الخلق, وعندئذ قد نجتهد نحن بعقولنا في معرفة بعض هذه المصالح التي يريد المولى تحقيقها لعباده, أو معرفة بعض هذه المفاسد التي يريد المولى دفعها عن عباده, لكن لا يعني ذلك أنها سر التشريع أو أنها سببه وعلته.
لعل من أهم الأسباب والعلل في هذا الحكم وهو عدم قبول توبة المرتد الفطري ظاهرا أن المرتد عندما يرجع إلى الاسلام, ربما لا يكون رجوعه حقيقياً وإنما يرجع لغرض آخر كنشر بدعته أو على الأقل إخراج الناس من دين الله بطريقة لا يشعرون بها, فيتقمص أثواب القديسين, بحيث لا يترك نافلة إلا فعلها، ولا يوما إلا صامه، وغير ذلك؛ فيغتر به الناس، فإذا قال كلمة اتبعوه, وعندئذ يبدأ في العمل والهدم في جسم المجتمع المسلم وفي صفوف المؤمنين, بل يحاول القذف والقذع في من رد عليه أو عارضه، أو قال للناس احذروا منه أو غير ذلك, وعندئذ يؤدي هذا إلى الفساد, فحسما لمادة الفساد, ودفعا عن التلبس بقدر الامكان ودفعا لظاهرة النفاق عن البروز, الله سبحانه تعالى لعله لبعض هذه الحِكَم, حكم بأن المرتد لا تقبل توبته ظاهرا وإن كانت رحمته ولطفه لا تجعله يغلق عليه باب التوبة الحقيقية لو كان تائبا حقيقيا فإنه يحصل على درجته الحقيقية في الآخرة، ولكن من يتوب توبة حقيقية لا يتأثر على ما يفوته من الدنيا من جاه أو زعامة أو مكانة أو معرفة أو غير ذلك, فإن من يكون طلبه الآخرة لا يكترث بهذه الأمور, وأما إذا كان يحز في نفسه أنه لماذا لم تقبل توبته ظاهرا فهذا التأثر في نفسه من فوات حطام الدنيا بالنسبة الى ثواب الآخرة يكشف عن جديته في التوبة.
سؤال:........
جواب: الحد لا يسقط وإن تاب لأن توبته ظاهرا لا تقبل. نعم لو كان لم يقدر عليه المسلمون, وتاب فلا شك أن توبته أفضل من توبة من تاب بعد أن قدر عليه المسلمون, لكن ليس معنى ذلك أن له أن يتقدم في أمور المسلمين, لا ليس له ذلك.
سؤال: ما مفهوم الشفاعه؟
جواب: الشفاعه هي الوساطة, عند المولى, هذا المعنى المقصود بالشفاعه, وأن الله سبحانه وتعالى كرما منه وإظهارا لكرامته للمطيعين من خلقه جعل لهم الوساطة بينه وبين خلقه في أن يعفو عنهم في حقوقه التي صارت له عليهم بسبب مخالفتهم وعصيانهم، وهذا هو معنى الشفاعة الشريعة الإسلاميه, والنبي صلى الله عليه وآله شفيع المسلمين, أي أنه يشفع للمسلمين يوم القيامة فيشفعه الله فيهم، والأئمة صلوات الله عليهم شفعاء للمسلمين، والأنبياء صلوات الله عليهم شفعاء للمسلمين، والمؤمنون رضي الله عنهم وأرضاهم شفعاء للمسلمين, يقول النبي صلى الله عليه وآله: "إن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر", يعني تقبل وساطته وشفاعته عند الله في إخراج جماعة من النار بقدر ربيعة ومضر وطبعا إنما أعطاه هذه الدرجة لإظهار كرامته، وكرامة الطاعة وفضل الطاعة وليس ذلك منافيا لمعنى التوحيد أو لمعنى الربوبية كما يروج له بعض الناس الذين لا يتدبرون في القرآن حق تدبره وكأنهم لم يقرأوا قوله تعالى: ]وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى[[13], فطبعا من لا يريد الله أن يشفعوا له لا يتشفعون له, وليس المقصود بالشفاعه أنها بدون إذن الله بل نحن نعتقد بالشفاعة وأن الأنبياء يشفعون، والأوصياء يشفعون، والأولياء والمؤمنين يشفعون بإذن الله, الله سبحانه وتعالى يأذن لهم بالشفاعة ولذلك ورد في الحديث المتواتر بين أهل الاسلام من الشيعة والسنه عن النبي صلى الله عليه وآله: "ادخرت شفاعتي للمذنبين من أمتي", ولم يقل أحد من المسلمين على اختلاف مذاهبهم وتباين نحلهم بعدم الشفاعه إلا ما ظهر في هذه الأيام من بعض المتحذلقين بالدين وهم لا يعرفون شيئا من حقيقة شريعة المسلمين؛ حيث زعموا أن التقرب إلى الله بالأنبياء شرك, وأن التقرب إلى الله بأوليائه شرك، مع أن الله سبحانه وتعالى في نقاشه مع المشركين إنما جاء لهم بشيء قال إنه لم يأذن لهم قالوا: ]مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ[[14], فكأنما لو كانت هناك مأذونية من الله بالتقرب إليه بهذه الأصنام لما كان التقرب بها شركا وإنما صار التقرب بالأصنام شركا لأن الله لم يأذن بالتقرب إليه بها, فإذا كان التقرب إلى الله بوسيلة من الوسائل عن طريق إذنه، كيف يكون شركا؟! ومعنى ذلك أن إبليس كان محقا في رفضه السجود لآدم, لأن السجود هو أظهر معاني العبادة, يعني لا يوجد عبادة ولا خضوع أشد من ظهور السجود فيه, ولذلك عبدة الأصنام ليست لهم صلاة معينة وإنما يسجدون للأصنام إظهارا لخضوعهم لها, فإذن عندما رفض إبليس أن يسجد إنما التزم بحقيقة التوحيد, فبأي حق صار عدوًا لله مطرودا من رحمته إذا كان التقرب إلى الله بالخضوع لغيره ولو عن طريق إذنه شركا، ولو عن طريق أمره شركا؟! ولكن من لا يعرف الدين ويتلبس بعلماء المسلمين يفسد أكثر مما يصلح.
سؤال: بالنسبة للمرتد فطرياً, وعدم إقامة الحكم الشرعي عليه في هذه الظروف, فما واجب الأمة المسلمة تجاه هذا المرتد سلوكياً؟
جواب: واجب الناس بطبيعة الحال لا أقول أنهم يعادونه أو يقاطعونه, ولكن واجبهم أن لا يسمحوا له بالدخول في شؤونهم الدينيه, وبأن يقدموه أو يزاحموه أو يرضوا بالالتفاف حوله, أو يسمحوا لأولادهم بالالتفاف حوله والذهاب إليه والرجوع إليه بحيث يكون له جماعة تقدره وتقدسه باسم الدين, والحال أنه في الشرع بحسب الحكم الدنيوي الذي يجب تطبيقه على الأرض حكمه أن يقتل.
سؤال: وأولاده؟
جواب: إذا كانوا مسلمين ومؤمنين فهم منا ونحن منهم.
سؤال: ما تعليقكم على ارتكاب الكبيرة مع عدم الوعي؟
جواب: طبعاً لا يرتكب الإنسان الذنب إذا كان واعيا بدينه حتى لو كان يعرف جميع أحكام الشرع, وارتكب الكبيرة ففي حين ارتكابه الكبيرة هو فاقد للوعي, وقد بينا ذلك, وقلنا إن قول النبي صلى الله عليه وآله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" أو لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن إلى غيرها من الروايات, إنما تعني عدم تيقنه بمضرة هذا الذنب في آخرته, لأنه لم يصدق أن هذا الذنب يحجبه عن الله سبحانه وتعالى, ولا شك أن عدم هذا التصديق هو عدم وعي حتى لو كان عالماً أو فقيهاً أو فيلسوفاً وارتكب الذنب فهو في حال ارتكابه للذنب ليس واعيا بدينه في تلك اللحظة.
سؤال: حلق اللحية في الأسبوع مرتين مع العلم بتحريمها, هل يعد ذلك من الكبائر؟
جواب: حلق اللحية حرام ولكنه ليس من الكبائر, نعم الإصرار عليه وعدم نية التوبه كبيرة, أما نفس الفعل فليس كبيرة.
* محاضرة ألقاها الشيخ سليمان المدني في عام 1988م بالدير
[1] بحار الأنوار – ج74 – ص159 – العلامة المجلسي
[2] الكافي – ج5 – ص123 – الشيخ الكليني
[3] البقرة: من الآية38
[4] النساء: من الآية31
[5] الذريات:56
[6] البقرة:278
[7] البقرة:279
[8] هود: من الآية114
[9] الزمر: من الآية53
[10] التحريم: من الآية8
[11] مريم: من الآية71
[12] مريم:71-72
[13] الانبياء: من الآية28
[14] الزمر: من الآية3
