دعوة إلى التآلف ونبذ البغضاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
أعتذر عن المواصلة في المحاضرة السابقة وهي تحريف الكلم بسبب الحمى التي ألمت بي في اليومين الماضيين وهذا اليوم, وأرجئ الكلام عنها إلى أسبوع آخر، غير أنني أود أن ألفت نظر الأخوة إلى أنّ بعض الشباب أصبح وكأنه قنبلة موقوتة يريد أن ينفجر لأدنى سبب, وأصبح كل شخص منهم لا يتحمل من أخيه ولو كلمة بسيطة، لسانه ممدود، و يده مستعدة للضرب، وغير ذلك.
هذه الأمور ليست في صالح أحد، ليست في صالح المجتمع كله، الذين يحزبون الناس ويفرقونهم أناس مغرضون، والذين يوغرون قلوب الناس على بعضهم البعض أناس مغرضون لهم أغراض خاصة. زيد تشاجر مع عمرو، أجيئ أنا واجبي الشرعي أن أتكلم لهما كلمة خير، أهدئ من ثورتهما، أزيح الغضاضة التي بينهما لا أن أدخل طرفا معهما.
بعض الشباب مع الأسف، يرون أن أي كلمة مع واحد منهم فإن عليهم جميعا أن يدخلوا وكأنهم رجل واحد، عن ماذا يكشف هذا السلوك؟ عن أي شيء تكشف هذه النفسية الموجودة؟ أختلف مع زيد في الرأي أو في الفكرة فلماذا تكون يدي مستعدة للبطش ولساني ممدودا بالكلام الوسخ والفحش وغير ذلك؟ هل هذا يحل الأمور أو يعقدها؟ يحقق الآمال أم يبعدها؟ عندما يصبح كل عشرة أفراد مجموعة بمفردها خاصة هذا المجتمع عندئذ ماذا يكون؟ فئات صغيرة متوزعة ومتناحرة ومتضاربة، مجتمع كهذا تعتقدون أن تقوم له قائمة؟ مجتمع عقليات شبابه بهذا المستوى من الانحطاط تتصورون في يوم من الأيام أن تعلو له راية؟ لمصلحة من هذا السلوك الدنيء؟ لمصلحة فرد يريد أن يظهر نفسه زعيما وهو لا يتمكن أن يعطي خدمة فيذهب إلى أطفال في السادسة عشرة وفي السابعة عشرة وفي الثامنة عشرة وأمثال ذلك يحزبهم ويجمعهم ضد أفراد آخرين ربما في سنهم وربما أكبر وربما أصغر، ومع ذلك يصر هؤلاء الشباب أن لا يفضحوا هذا المغرض الخائن للمجتمع الذي يريد أن يكون كالعلقة يمتص الدم، ويكبر وينمو على حساب المجتمع، مع الأسف هو أحقر من العلقة، العلقة أحيانا تستعمل في الطب بدلا من الفصادة، وأما هو ففي أي شيء يستعمل؟ نعم يستعمل لهدم المجتمع، يستعمل للتفريق بين الأخ وأخيه، يستعمل لإفادة المغرضين.
لماذا هذا السلوك العجيب المتفشي في جميع القرى والمدن؟ ولحساب من؟ من يعتقد أنه بهذا السلوك مخلص لقضية من القضايا فهو واهم، ومن كان يعلم بأن سلوكه يضر بالمجتمع ولا يرتدع ولا يتوب فهو خائن لقضية المجتمع التي عاهد الله على خدمتها، هذا سلوك دنيء، لماذا فحش القول؟ لماذا الاتهامات بالمجان؟ إطلاق الكلام على عواهنه؟ لماذا مد اليد؟ لماذا التحزب؟ زيد وعمرو تشاجرا؛ آتي أنا وأدخل وكأنني جئت لأظهر رجولتي! أنت لم تظهر رجولتك, أنت أظهرت سقوطك، أنت وقفت موقفا جاهليا لا يختلف في قليل ولا كثير عن مواقف أهل الجاهلية، لو جئت وقلت أيها الأخوة اتركوا هذا النزاع فهذا صحيح، أما أن تأتي نافخا أوداجك وتريد أن تزيد الفتنة ضراما، لماذا؟ لا ادري لمصلحة من هذه الأمور التي تجري في كثير من القرى وكثير من المدن, وإلى متى سيبقى الناشئة منحطي الإدراك إلى هذه الدرجة؟ عذرناكم أيها الناشئة كثيرا ولكن العذر زال، لماذا هكذا أنتم؟ أنتم عماد المستقبل، إذا نشأتم على هذا الخلق الذميم، وإذا نشأتم على هذا التعصب الممقوت، وإذا نشأتم على هذا التحزب البغيض، فماذا ستفيدون في المستقبل، لماذا تسمحون للمغرضين أن يستغلوكم، أن يقضوا بكم أغراضهم؟ أخبروني لماذا؟ لمصلحة من هذا؟ ولمصلحة من عدم فضح من يأتيك ويغتاب أخاك عندك؟ لمصلحة من أن لا تفضح من يأتيك ويوغر صدرك على قوم آخرين من المجتمع؟ لمصلحتك؟ لا، ثق أنه لضررك، لمصلحة بلدك؟ لا، ثق أنه ضرر على بلدك، ضرر على قومك، ضرر على المجتمع بأسره، نعم لمصلحة من يريد أن يضعك في قفصه ويغلق عليك في سجنه فقط.
إلى متى ستبقى هذه السلوكيات الباطلة الماجنة؟ لأتفه الأسباب تأتي الاتهامات المتبادلة، الكلمات النابية، السلوك الجاف، يمر الإنسان على إنسان آخر كل منهما يدعي التشيع لا يسلم عليه لماذا؟ أخلاق الإسلام هذه أم أخلاق الجاهلية؟ أتظن أيها الإنسان الذي تركت سنة رسول الله صلى الله عليه وآله في إفشاء السلام أتظن أنك تدعو إلى الإسلام؟ كذاب أنت، كذاب من أفهمك أن هذا هو الإسلام، إن الله سبحانه وتعالى جعل السلام تحية بين المسلمين، فإذا مررت تقول السلام عليكم، تحب هذا الإنسان أم تبغضه، صديقك أم عدوك، إذا لم تقل له سلام عليكم فمعناه آذنته بالحرب، وأظهرت له العداوة، رجل أظهر لي الشر، مر علي ولم يعطني كلمة الأمان التي أنزلها الله في كتابه، كلمة فيها عهد، أقول له سلام عليكم يعني أنت سالم من لساني ومن يدي هذا معناها، أو يمر عليه رجل يشهد معه الشهادتين ويقول له السلام عليكم فلا يرد وكأنه الحجرة الجالسة, ما أسخف هذا الخلق وما أجفى هذا الإنسان، لم يكن أبو جهل أجفى منه، ولا أشد منه شراسة، ولا أكثر منه حمقا، هل هذه أخلاق محمد صلى الله عليه وآله؟ أخلاق علي؟ أخلاق الحسن؟ أخلاق الحسين؟ أخلاق الأئمة هذه؟ يظهر نفسه بطلا في أنه لم يرد السلام على عمرو، ولا يدري أنه أثم لأنه ترك واجبا شرعيا، مسكين لا يعرف الحقوق، هذا حق واجب لكل من يقول لك السلام عليكم, وأنت ظلمته حقه, وصار له أن يطالبك به، بل إذا سلم عليك ولم ترد عليه السلام فالمعنى أنك رفضت عهده، رفضت معاهدته بالسلامة من يدك ومن لسانك كما لو مر ولم يسلم عليك.
هذه أخلاق المؤمنين؟ أخلاق من يدعي أنه غضب للحق؟ كذب هذا الذي يدعي أنه يغضب للحق وهو ضد الحق لأنه لا يعرف ما هو الحق، الحق هو ما أنزله الله في كتابه، الحق هو ما بينه الرسول في سنته، الحق هو ما بينه الأئمة في كلماتهم, وليس الحق هو ما تصورته بوهمك، يطلب الحق وهو لا يرد السلام، يطلب الحق ويده مستعدة للبطش، يطلب الحق ولسانه كأنه لسان الكلب العقور، لماذا؟ لماذا هذه الأخلاق الجاهلية؟ لماذا تعودون بعد الإيمان إلى أخلاق الجاهلية؟
تأدبوا بآداب الله، تأدبوا بآداب رسول الله، تأدبوا بآداب الأئمة إن كنتم لله وللرسول وللأئمة تتبعون، ودعوا عنكم هذه الجاهلية، ماذا كانت أخلاق الجاهلية؟ ولماذا سميت جاهلية؟ ألا يوجد كفار اليوم؟ ألا يوجد من يعبد الأصنام اليوم؟ لماذا لا تسمونهم جاهلية؟ ألا يوجد النصارى اليوم؟ لماذا لا نسميهم جاهلية؟ إنما سموا جاهلية لأنهم جفاة، لأنهم جساة، لأنهم قساة، وإلا فالوثنيون موجودون لليوم، اذهب للهند تجدها مملوءة بعبدة الأصنام، اذهب إلى الصين تجدها مملوءة بعبدة الأصنام، ترى ألم يعبد الأصنام في الدنيا إلا العرب حتى نسميهم جاهلية لأنهم عبدوا الأصنام، لا، إنما أطلق عليهم أهل الجاهلية من الجهل وهو التكبر والغضب والحمق والقسوة والجفوة وكل من أخذ هذه الأخلاق والصفات له عادة فهو جاهلي، فالجاهلية ضد الحضارة وضد التمدن، ليست ضد التدين، ليست ضد الإيمان بالله، ]أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ[[1]، هذه الأحكام التي يأتي بها أبو سفيان وأبو جهل، وإلا فأهل الكتاب كفار، في الهند وثنيون، في كل مكان وثنيون، ما أطلق عليهم أهل الجاهلية، أطلق أهل الجاهلية على خصوص مجموعة معينة في بلاد العرب، لماذا؟ لأنهم لا يريدون أن يسمعوا، عندما يريد إنسان أن يتفاهم معهم، لا يريدون أن يتفاهموا، عندما يريد إنسان أن يتحاور معهم، لا يريدون أن يتحاوروا، سموا أهل الجاهلية، ]سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ[[2]، يعني لا نبتغي الجاهلين، لماذا؟ الذين يثورون لأتفه الأسباب، والذين يتكبرون في أنفسهم، الذين ينفخون أوداجهم على غيرهم، الذين لا يرون رأيا إلا رأيهم ولا منطقا إلا منطقهم ولا حقا إلا ما تصوروه بأذهانهم، هؤلاء أهل الجاهلية. لماذا هذه الأخلاق؟ لماذا هذا السلوك؟ مع الأسف فيهم طلاب جامعيون، ومع الأسف فيهم مدرسون يدرسون الأجيال هذه الأخلاق اللطيفة! مع الأسف فيهم أناس يدعون أنهم مثقفون.
يا إخواني لا ينبغي لكم أن تستمروا على هذه الحالة، وإذا بقيتم على هذه الحالة فأبشركم بسقوط ما بعده سقوط، و ذلة ما بعدها ذلة، ضعف ما بعده ضعف، الشعوب الراقية، والمجتمعات الراقية، مجتمعات متعاونة، مجتمعات متفاهمة، مجتمعات تتحمل الاختلاف والخلاف ولا تشق صفوفها، مجتمعات تحافظ على من يختلف معها في الرأي كما تحافظ على من يتفق معها في الرأي، هذا هو المجتمع الراقي، المجتمع الراقي يتهم أهل القرية كلهم بالنفاق؟ ما أرقى هذا الإنسان! وبشعر هزيل، لا أريد أن أتكلم عن مثل هذا الإنسان التافه فإن في جدحفص ألسنة هي أشد من أنياب الحيات إذا عضت، وفيها ألسنة هي أشد من أسنة الرماح إذا طعنت، يستطيع أهل جدحفص أن يدافعوا عن أنفسهم، ولكنني أقول لهم إن من يقول مثل هذا الكلام إنسان تافه ساقط لا يستحق منكم اعتناء ولا التفاتا، وكذلك في قرى أخرى كثير من هؤلاء التافهين الذين لا يستحقون حتى أن يبصق عليهم.
على أي حال أنصح الشباب أينما كانوا أن يتركوا أخلاق الجاهلية، وأن يكونوا مجتمعا متحضرا. نحن هنا في البحرين ندعي أننا شعب عريق الحضارة، عريق المدنية, فأين حضارتنا وأين مدنيتنا، ظهرت هذه الأيام بهذا السلوك الذي لا يختلف عنه سلوك أبي جهل وأبي سفيان.
أسال الله سبحانه وتعالى أن يهدينا إلى طريق الصواب بحق محمد وآله الأطياب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* كلمة ألقاها الشيخ سليمان المدني في ليلة الثلاثاء 14/8/1995م بجامع جدحفص
[1] المائدة: من الآية50
[2] القصص: من الآية55
